د.طارق البكري
دار الرقي
بيروت
أيار 2012
الطبعة الأولى
إهداء
إلى أحبائي.. أطفال المغرب
وجدت لديكم كلَّ الحب.. وأنا أيضاً أحببتكم (بزَّاف بزَّاف)
وإهداؤكم هذه الرواية لا يوازي ترحابكم الكبير بقصصي..
تمنياتي لكم بمزيد ومزيد ومزيد.. من التميز
مع محبتي
طارق
المشهد الأول:
نادل المطعم الصغير - في ذلك الشارع الذي لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً - يدرك أنَّ للتجارب معاني كثيرة وللمحن فوائد كبيرة، فهو من أولئك الذين عجنتهم الحياة بعدما خسروا أحلامهم، ولم يحققوا الكثير منها، فرضي بأن يكون نادلاً بسيطاً جداً يخدم الناس على أن يكون ثرياً يخدمه الآخرون..
هو يؤمن بأن هناك مسافة شاسعة تفصل بين ما نريده نحن وبين ما يريده لنا القدر، أحياناً نحقق كثيراً من الأحلام، وفي أحيان أخرى نفقد الكثير الكثير منها، لكنْ مهما اشتدت المحن حدة، والتجارب قسوة؛ فإنَّ على الإنسان أن يخرج في كل حال أكثر قوة وأمضى حكمة وحنكة.. راضياً بالقضاء والقدر، موقناً بأن العسر يتبعه يسران، وأن الشدة لا تأتي إلا وبعدها فرج.
اليوم تنتابه حالة لم يسبق أنْ راودته من قبل.. يريد نقض الصورة..
قرر دون تفكير وتصميم سابق خلع ثوب العمل وإزالة إزار النادل الذي نادراً ما يخلعه.. ويرتدي حلة أنيقة؛ قميصاً وردياً، ربطة عنق متزاوجة بين الوردي والكحلي في تداخل جميل.. أمَّا البذلة فكحلية اللون.. حافظت على لونها وبريقها رغم قدمها.. فهي لم ترَ وجهَ الشمسِ ولا وجهَ القمرِ منذ نحو من خمس سنين..
بذلة واحدة لا يملك غيرها، اشتراها في مناسبة زواج صديقه الوحيد ليحضر عرسه، ومن يومها لم يعد يرتديها، كما أنه لم يرَ صديقه هذا منذ ليلة العرس..
في البداية كان يبحث له دائماً عن أعذار.. لكن غيبته طالت كثيراً حتى يئس من عودته مرة ثانية..
كان يأتي من حين إلى آخر قبل زواجه إلى المطعم الصغير، يتناول بعض السندويتشات ولا يدفع ثمنها.. كان فقيراً مثل صديقه، لكنه يعمل يوماً ويبقى عاطلاً عن العمل أياماً طويلة، وربما لأسابيع.
فجأة قرر الزواج من إمرأة تكبره بسنوات عدة.
ميزتها الوحيدة أنها كانت تملك بيتاً صغيراً في مكان بعيد، على أطراف البلدة، مع مزرعة فيها بعض الأشجار والحيوانات الداجنة.
هذا الزواج "على علاته" هو برأيه أفضل حالاً من تمضية الحياة متشرداً بائساً..
قرر النادل أن يعتذر عن العمل في المساء.
عاد إلى منزله ليرتاح قليلاً في فترة العصر، ولم يكن يعود إلى المنزل في كثير من الأيام، يفضل البقاء في غرفة جانبية مخصصة لاستراحة العمال في المطعم، لكنه منذ الحادثة بدأ يشعر بأحاسيس مختلفة، وبدأت تتسلل إليه رغبة تمرد على الواقع، هي رغبة لم تكن في الماضي من صفاته.
ارتدى البذلة الكحلية، استعداداً للذهاب إلى بيت صديقه.
فكر أن يزور في طريقه مطعماً فخماً يقع عند أطراف البلدة، قرب بيت صديقه القديم، بيت المرأة المسنة، حيث اختفى هناك ولم يعد يظهر منذ سنين.
يذهب إلى المطعم بواسطة سيارة أجرة صغيرة، يمنح سائقها إكرامية مجزية، يتناول أشهى وجبه، ينفق على هذه الوجبة ربما أجرته الأسبوعية، يشتري باقة ورد ثم يتوجه إلى بيت صديقه.
بعد أن ارتدى البذلة، وسرح شعره، تأمل نفسه طويلاً فلاحظ غزو آثار العمر لوجهه وشعره.
منذ فترة طويلة لم يحدق في المرآة..
منشغل على الدوام في العمل، ولا يكترث كثيراً بمظهره..
التفت بحركة عفوية نحو الكنبة..
تذكر الحقيبة السوداء..
تلك الحقيبة العجيبة، وصاحبها الذي يطلب فنجان قهوة مُرّة وتوست ساخن يومياً..
كان قد نسي أمر هذه الحقيبة بعض الوقت.. لكنها الآن عادت إليه مع صورة الرجل الذي اختفى هو أيضاً ولم يعد يأتي إلى المطعم.. ذلك المطعم الرخيص نسبياً.. مع تلك الأطعمة البسيطة التي يقدمها وتكفي فقط لسد الجوع وملء المعدة الخاوية.. يجلس الزبائن غالباً على طاولات مشتركة دون أن يعرف الواحد الآخر.. وتبقى العيون مشدودة إلى الأطباق.. لا يرفع الزبون رأسه إلا عندما يشرب الماء أو الصودا، أو عندما ينتهي ويطلب الحساب.. ثم يخرج على الفور دون أن يترك للنادل عادة قليلاً من الإكرامية.
كانت البذلة ملتصقة بجسده الممتلىء بعض الشيء..
برزت انتفاخات من ناحية الكتفين وناحية البطن..
من الواضح أنَّ وزنه ازداد كثيراً عن السنوات الآخيرة الماضية، رغم أن البذلة بعد ذلك الزمن الطويل ما زالت تبدو جديدة ولونها لم يبهت.
قرر اليوم أنْ يزور مطعماً فاخراً وأن يأكل بشراهة ثم يدفع إكرامية كبيرة للنادل.. يريد أن يُشعر نفسه بالرضى، وأنْ يشعر نادل المطعم بكرمه.
لم يفعل ذلك من قبل، لكنها اليوم مغامرة جريئة غير مسبوقة..
المشهد الثاني:
خرج من بيته بعد أن ألقى نظرة أخيرة على تسريحة شعره وأناقته.
تأكد من اتساق ربطة العنق مع طولها، تحقق من لمعان حذائه الأسود برأسه المستدير.. ثم سار في طريقه بهدوء بالغ..
كان البرد شديداً، لكنه لم يعبأ بذلك مع أن البذلة التي يرتديها بذلة ربيعية، فهو لم يعتد على الحياة الرغيدة المنعمة، حياته كلها مجموعة صعاب، وبالرغم من أنه لا يذكر شيئاً من تجربته الأخيرة.. فإنه يعتقد بوجود فترة مبهمة من حياته، فترة غير واضحة.
يريد أن يتذكر الماضي، يريد أن يعرف سر الجرح في كتفه. وآثار القيود على يديه وقدميه.
كانت مشاعره تبحث عن سبب ذلك، لكنه لا يجد في ذاكرته أي شيء.. كانت ممسوحة تماماً. مع الأيام اختفت آثار القيود، لم يعد يفكر بها، لكنه من حين إلى آخر يتأمل آثار الجرح، فهو الأثر الوحيد الباقي.. لكنه لا يكشف سراً ولا يمنحه اً واحداً لتذكر السبب.
يعرف أن آثار القيود وآثار الجرح ألمَّت به بعد اختفاء السيد وحيد الذي لم يعد يظهر على الإطلاق.
أسئلة كثيرة تراواد عقله يحاول التملص منها.
- سبب اختفائه ليومين عن العمل؟
- أين ذهبت الحقيبة وكيف؟
- أين السيد وحيد؟
نسي تماماً كل ما قاله له الرجل الحكيم من أنه عندما يصل إلى بيته ويتناول ثمرة النسيان، سوف ينسى موضوع الحقيبة وكل ما حدث معه من تجربة قاسية.
الثمرة المرة أنسته الأحداث التي مر بها داخل الحقيبة، لكنها لم تمسح تماماً ذاكرته الماضية، التي سبقت دخوله الحقيبة.
ربما لم يتناول الثمرة كلها..
أو ربما كان الألم أقوى من الثمرة، وكان عليه أن يأكل ثمرة أكبر منها.. أو على الأقل ثمرتين.
ورغم أنه نسي الأحداث فإنَّه يشعر بوجود قطبة مخفية.. فهو لا يجد تفسيراً لكثير من الأمور.. وخاصة آثار القيود والجرح العميق الذي في كتفه.. ذلك الجرح الذي أصابه بعد سقوطه في ماء النهر وارتطامه بصخرة..
بقيت آثار الجرح واختفت آثار القيود والكدمات..
كان السؤال الأكبر بالنسبة له: أين السيد وحيد؟
لماذا لم يعد ليسأل عن حقيبته، رغم مرور أسابيع على اختفائه، واختفاء الحقيبة دون مبرر واضح؟
ظن واهماً أنَّ الحقيبة سرقت.. أو أنَّ السيد وحيد دخل المنزل من النافذة ليستعيد حقيبته خلال فترة نومه العميق، خاصة أن بيت النادل قريب من الطريق، ويمكن بسهولة تسلق نافذة البيت، وكان النادل يترك النافذة مفتوحة دائماً حتى في فصل الشتاء البارد.. فلا يوجد شيء في المنزل يخشى عليه..
الأثاث قديم جداً ومتهالك، وراتبه بسيط ولا يكفي حتى حاجاته الأساسية الضرورية من إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وبعض الضروريات التي يشتريها بالدين من البقال، لكنه يسدد الدين فور حصوله على أجرته الأسبوعية، فتبقى معه دريهمات قليله، يحتفظ بها في جيبه طوال الوقت حتى وهو نائم حتى ينفقها كلها..
ذاكرة النادل توقفت عند لقائه الأخير مع السيد وحيد، نسي الأشرار والأقزام والأرنب والرجل الحكيم والبومة الطيبة والطائر المنقذ.. لم يبق في ذاكرته شيء من ذلك كله.
عاد يمارس حياته دون أي ذكرى، لكن مشاعره ظلت تبحث عن سبب لكل ذلك، فلا يجد في ذاكرته المرتبطة بهذه الفترة شيئاً يروي غليله، كانت ممسوحة تماماً..
ومع الأيام اختفت آثار القيود.. لم يعد يفكر بها.. لكنه من حين إلى آخر يتأمل آثار الجرح، فهو الأثر الوحيد الباقي، لكنه لا يكشف سراً، ولا يمنحه اً واحداً لتذكر مغامرته القاسية.
أما المطعم الواقع على أطراف البلده فهو في الحقيقة ليس فاخراً.. بل متوسط الحال، لكنه بالمقارنة مع المطعم الذي يعمل فيه مختلف تماماً، فذلك المطعم مكان الضرورة لرواده، يأتون على عجل ويذهبون على عجل، أمَّا أسعاره فهي متهاودة وتناسب الطبقة العاملة والموظفين البسطاء، الأطعمة التي يقدمها ليست غاية، بل وسيلة لكبح الجوع وتعبئة المعدة فقط..
ومع ذلك فإنَّ زبائنه كثر، فهو الوحيد في الشارع وأطباقه متنوعة ورخيصة.
الزبائن يدخلون ويخرجون بلا توقف.. والوقت يمضي في المطعم بوتيرة متسارعة، يأتون ليملأوا جوفهم بأي شيء.. لا يهم.. ثم يخرجون ليتابعوا أعمالهم..
هم مشغولون بحياتهم وليس لديهم الكثير من الوقت ليضيعونه هباء منثوراً.
مطعمه يشبه خلية نحل..
"طقطقة" الصحون والملاعق تملأ المكان ضجة ونشاطاً.
المشهد الثالث:
المطعم كان هادئاً للغاية، زبائن متناثرون داخل جنباته الواسعة، يختبئون خلف أضواء خافته، همساتهم لا تريد بعثرة سكون المكان.
ما أجمل النسيم العليل بعد عاصفة، وما أزكى نسائم العطر التي تحمل أحلام شاب قادته قدماه إلى هذا المكان البديع..
موسيقى وغناء..
هذا لحن يعرفه..
هذا صوت.. "يا سلام.. ما أجمله" ..
أصالة تغني باللهجة المغربية..
"أذكر هذه الأغنية جيداً.. لطالما وضعتها في المطعم.. كلماتها تعني لي الكثير"..
"ما أنا إلا بشــر عندي قلب ونظر.. وأنت كلك خطر".
كان يسمع هذه الكلمات ثم يرددها ويتوقف عند كل كلمة، لم يسمعها منذ فترة.. يتأمل.. ينظر إلى سقف المطعم.. يجول بعينيه دون تمعن في شيء..
تلك فرصة سانحة لكي يغيب عن عالمه للحظات.. فرصة نادرة؛ يحجب الإنسان فيها فكره عن الواقع، مبتعداً عن عاصفة الحياة، عن جراحها الساخنة التي تلقى على الطريق تحت شمس لاهبة أو في وجه قمر وسنان.
يفتش عن شعاع شوق ينجيه من مغالبة النفس المرهقة من التفكير، سعياً وراء حقيقة مبهمة وغامضة..
يعود ليقول بلذة فائقة: "ما أنا إلا بشر.. عندي قلب ونظر" .
يتذوق اللحن.. يحلق في الكلمات.. ويذوب مع صوت أصالة..
لاحظ نادل المطعم هذا الاندماج الكلي والتماهي مع الأغنية.. لم يكلمه ولم يقترب منه.. تركه يعيش في عالم من الأحلام المترامي الضفاف، حتى انتهت الأغنية واستفاق من جديد..
يوجد فرق كبير بين عالم الخيال وعالم الواقع، بين عالم الحقيقة والأحلام.. غير أن للخيال سراً يكسر مغاليق الفضاءات الحالمة، هي أشياء تولد بلا قرار، تنبض دون اختيار، وتموت دون احتضار..
عاد النادل - الذي نسي اسمه تماماً - إلى واقعه، لم يناده أحد باسمه منذ فترة طويله.. حتى صديقه الوحيد الذي تزوج امرأة كبيرة بالسن، اختفى..
رواد المقهى ينادونه بـ: يا أيها النادل..
طلب منهم مراراً وتكراراً أن ينادونه باسمه لكنهم لم يبالوا يوماً بطلبه.. همهم الحصول على طعام وشراب، وملء معداتهم الخاوية، ثم العودة إلى أعمالهم بأسرع وقت ممكن..
"آه.. ما أصعبَ تلك الأيام.. منذ أنْ بدأتُ العمل والعمل لا يتوقف، ساعاتُ الراحة قليلة.. اليوم أريد أن أتمرد على نفسي، ولو ليوم واحد".
لم يكن النادل يدرك حقيقة التجربة التي مر بها في رحلة البحث عن سر الحقيبة.. لكن وقعها كان عميقاً في نفسه..
يدرك أن شيئاً ما قد حدث، لكنه شيء مجهول..
كم هي الشدة أمضى حدة عندما تكون الغرابة من داخل النفس، والنفس متوثبة نحو الحقيقة، متحمسة لكشفها، لكن ستاراً من الظلمة الدامسة يشكل حاجباً لكل شيء.. حتى مجرد تخيّل الحقيقة ليس ممكناً.. في عالم مبهم.
الموسيقى تصدح في المكان..
الضوء الخافت بألوانه المتعددة يثير في نفسه حَسَرات على زمان انقضى دون أن يحقق فيه ما كان يرجوه من أحلام..
على الحائط المقابل له مباشرة صورة للبلدة القديمة، صورة يذكر تفاصيلها، المنازل متراكمة فوق بعضها على التلال، وكأنها مبنية مثل هرم، وعلى الحائط الآخر البعيد مجموعة من الصور لا تتضح له معالمها..
الضوء الخافت والإلوان المتأرجحة المتراقصة تجعل الرؤية مقتصرة على الأمكنة القريبة، أما البعيدة فتحفل بأسرار مغرية، وألغاز مبهمة..
توجه نادل المطعم إليه من جديد..
كان يرتدي حلة أنيقة وجديدة، ولا تبدو عليها آثار العمل.
تذكر الثياب التي يرتديها في مطعمه البعيد، واختلاطها بالعرق والهواء الملوث بدخان السجائر الذي يملأ المكان..
بأدب جمِّ، وبثقة بالغة الكبرياء قدَّم له النادل قائمة الطعام مرحباً:
"أهلاً بك يا سيدي.. يبدو أنك أوَّل مرة تأتي إلى مطعمنا.. يوجد لدينا الكثير من الوجبات الشهية؛ مشويات على أنواعها، أسماك من كل الأصناف، طازجة من البحر إلى مائدتك مباشرة، كما لدينا أفضل أنواع السلطات والمرق، لك أن تختار وعلينا أن نعد لك أشهى الأطباق"....
صوت فيه رقة..
ينساب مثل نسيم عذب في يوم ربيع..
لكنه يتكلم كآلة تسجيل، كلمات يحفظها ويكررها مع كل زبون.. يطلقها دون مشاعر..
"لا شك أنه تدرَّب كثيراً على قول تلك الكلمات.. في رقة وسلاسة.. لكنها تظل كلمات فارغة من إحساسها".
قال ذلك في نفسه، لم يبدها له - بالتأكيد - فهو يحترم عمله الذي يؤديه برقة.. واللطف الذي يبديه بحرفية عالية.. نظر إليه مع ابتسامة عفوية تعبر عن تقدير كامل لأسلوبه، ثم تأمَّل قائمة الطعام.
ألقى نظرة ماسحة على سعر الوجبات ..
كان يأمل أن يأكل ثم يأكل ثم يأكل - بغير حساب - حتى تمتلىء معدته الخاوية.. لكن من الواضح أنَّ المبلغ الذي في جيبه لا يكفي نصف وجبه.. ولا حتى ربع دجاجة مشوية.. فضلاً عن الإكرامية "الكبيرة" التي كان يريد أن يمنحها لنادل المطعم.
مضت هنيهات ونادل المطعم يقف أمام طاولته ينتظر طلبه..
تذكر ما كان يطلبه السيد وحيد.. بالتأكيد لن يكون الطلب بتكلفة المطعم البسيط حيث يعمل، لكنَّه سيكون حتماً بقيمة أرخص من أرخص وجبة من هذه الوجبات الباهظة الثمن.
تأمل لائحة الطعام قليلاً.. ثم قال بهدوء وثقة مصطنعة: "فنجان قهوة وقطعة من التوست من فضلك".
لم ينبس نادل المطعم بكلمة واحدة..
لم يظهر أي تعبير يغير قسمات وجهه.. أو يشير إلى مشاعره الساخرة..
أخذ منه لائحة الطعام، ثم اختفى في عتمة المطعم..
ما أصعب المواقف التي يمر بها الإنسان.. حتى الآمال البسيطة لا يمكن تحقيقها بسهولة، مجرد وجبة شهية في مطعم فاخر - إلى حد ما - لا يستطيع الحصول عليها..
كان يظن أنَّ أجرته الأسبوعية كافية..
لكن.. حتى فنجان القهوة أغلى بنحو خمسة أضعاف من المطعم الذي يعمل فيه..
فهل مجرد بعض الأضواء الخافته الملونة، والشموع المعطرة، والكراسي المريحة، مع ورود تزين المدخل.. كافية لرفع سعر الوجبات؟!
الناس هنا يسهرون وينفقون بلا حساب..
تذكر محمود درويش في كلماته:
"أيَّها الساهرون أَلم تتعبوا
من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا
ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا؟".
المشهد الرابع:
أعوام كثيرة عبرت أمامه وهو يتنقل بين الطاولات والزبائن.
لم يفكر لحظة أن يبدل عمله، ولا أن ينتقل إلى مطعم آخر، كان راضياً قانعاً بما هو فيه، لم تكن الأحلام عريضة ولا الآمال كبيرة.. وتكفيه في المساء وسادة يعشقها.
حلم الزواج كان مؤجلاً.. أو - ربما - مستحيلاً..
فمن تلك التي ترضى بالزواج منه؟!.. وأجرته الأسبوعية لا تكفي حتى وجبة عشاء بسيطة في مطعم مثل هذا..
ثوان معدودات وأحضر له نادل المطعم طلبه، ولم يبتسم له هذه المرة..
نظر إلى وجهه نظرة متفحصة سريعة، تأمل سترته الكحلية.
وضع الطلب على الطاولة وألقى الفاتورة في صحن صغير بغير مبالاة..
كان يبدو واثقاً بأن الرجل لن يطلب غير هذا الطلب البسيط، موحياً له بأن عليه أن يشرب فنجان القهوة ويتناول قطعة التوست بأسرع وقت ممكن، ثم يغادر على الفور.
لم يأبه بكل هذا.. لم يرد أن يعكر صفو هذه اللحظات النادرة بموقف مزعج..
عاد يتأمل جوانب المطعم بأضوائه الخافتة.
ملامح الوجوه ليست واضحة بينة، على نقيض المطعم الذي يعمل فيه..
هناك الزبائن يجلسون متقاربين حتى التلاحم والانصهار، لكن عيونهم تبقى مركزة على الأطباق.. يأكلون بسرعة ثم يخرجون لمتابعة أعمالهم، لكن الزبائن هنا يستمتعون بوقتهم، يتحدثون بأصوات هامسة.. يتبادلون الابتسامات على ضوء شموع عطرة.. على كل طاولة شمعة، وهج الشموع ثابت لا يهتز، بعض الطاولات أطفأت شمعاتها ليكون حوارها أكثر خصوصية..
طلب من نادل المطعم أن يحضر له شمعة إضافية بعطر مختلف، لكي يمتزج وهج الشمعتين على المائدة الفارغة إلا من فنجان قهوة وقطعة توست، فتتماهى رائحتهما داخل أنفه، آملاً بأحلام لم يرها من قبل..
لكن النادل لم يعطه فرصة التمتع بهذه اللحظات.. كان يقطع عليه أوهامه جيئة وذهاباً حتى ينهي ق___ه ويغادر بسلام..
أمَّا هو فلم يكن مستعجلاً على الإطلاق.. لا يوجد هناك سبب واحد يفرض عليه ضرورة مغادرة المطعم.
لم يرتشف رشفة واحدة..
ترك الفنجان أمامه ممتلئاً تفوح منه رائحة القهوة التي تسلك طريقها إلى رأسه مباشرة، كما أنه وضع قطعة التوست وسط الطاولة لتبدو ظاهرة للعيان..
"لا همَّ".
عندما يريد المغادرة سوف يشرب القهوة باردة، ويلتهم قطعة التوست، ثم يغادر بهدوء بعد أن يشبع نفسه برفاهية المكان..
ما أجمل الثواني الممتعة المرهفة التي تغيب فيها مساحات العقل عن عصف السنين وشجون الحياة..
ينشرح الصدر بعفة القلب ونقاء النفس، وتحلق الروح بسمو المشاعر ونبلها..
المكان والزمان منفصلان ومتحدان.. الأول يملأ فضاء الشعر بخيلاء الواثق بالاستمرار.. والثاني رحال، لا يعرف ثباتاً ولا رجوعاً ولا بقاء..
"كل حال عنده يزول"..
كلمة سمعها يوماً من الحاج فيصل، رجل حكيم كان يأتي إلى المطعم من حين لآخر..
لم يكن الحاج فيصل رجلاً عادياً مثل غيره من رواد المطعم.. كان متقدماً بالسن، ينشر هيبته بلحيته البيضاء الخفيفة، ومشيته الثابتة الهادئة، ونظراته الحيية..
جاء بضع مرات ثم اختفى.
قال للنادل يوماً وهو يعطيه ثمن الطعام قبل أن يغادر المطعم:
"صدقني يا صديقي.. كل حال يزول".
ولم يظهر بعد ذلك أبداً..
غاب عن الذاكرة كما تغيب أشياء وأشياء، وقد قيل في الأمثال: "بعيد عن العين بعيد عن القلب".
حتى زهرة العشق في قلوب العاشقين تذوي مع الأيام.. ولطالما جال المحبون في وديان العشق حتى تناءت صور فما لها من كيان..
المشهد الخامس:
جلسته كانت حائرة حالمة، يختلس من فضائها بعض الذكريات، فيما تفرض المشاهد المتتابعة أمامه الدهشة على قاموسه المنتمي إلى مطعمه القديم..
الأطباق الطائرة تنتقل على صوان فضية كبيرة، توضع بعناية فائقة على طاولات خشبية محلَّاة بقطع من الصدف الأبيض اللمَّاع، مغطاة في أعلاها بقماش زهري شفاف من لون سقف المطعم، فتزيد المكان رقَّة وشجوناً..
كلَّ ما في المكان والزمان المتحدين في ذاته، يصنع في نفسه أثراً يشبه الجرح الذي في كتفه..
ذلك الجرح المثير المبهم، الذي فشل في اكتشاف كنهه كما فشل في اكتشاف (سرِّ الحقيبة)..
بعد تلك الحادثة مباشرة.. وبعد أنْ استفاق من نومه الطويل، ذهب إلى الطبيب ليعالج أثر الجرح الذي لم يكن قد التأم بعد، سأله الطبيب عن سبب الجرح فلم يجد جواباً.
قال له: "ربما سقطت من سريري ووقعت على شيء ما سبَّبَ هذا الجرح العميق".
لم يقتنع الطبيب بهذا الجواب.. قال: "داخل الجرح رمال يجب إخراجها؟
صاح باستغراب: "رمال؟! من أين تأتي الرمال؟ أنا كنت بالمنزل نائماً!".
تابع الطيب كلامه: "الجرح يتطلب أولاً تنظيفه من الرمال التي بداخله، ثم سأقوم بتعقيمه وخياطته.. ستشعر ببعض الألم".
تفحص الطبيب حبات الرمل: "هذا رمل غريب حقاً لا أدري مصدره.. على أي حال.. حمداً لله على سلامتك، أيام ويبرأ الجرح، لكن عليك الآن أن تحافظ على تناول العلاج بشكل كامل وبأوقاته المحددة".
تذكر ذلك ولم يشغل نفسه..
الأطباء قد يعظمون الأمر رغم بساطته..
"الجرح كان بسيطاً وذهب إلى غير رجعة، لكنَّه ترك أثراً واضحاً.. شفيتُ من ألم الجسد لكنَّ آلام الروح لا تشفَى بسهولة".
مَا أصعب تلك الآلام التي تصيب الإنسان في صميم قلبه ولا يجد لها شفاء.. والوجع الحقيقي لا ينفع فيه طبيب ولا دواء.
في هذه اللحظة سمع صوتاً ندياً هامساً على طاولة مجاورة..
لم يلحظ قبل هنيهة أنَّ أحداً "يختبئ" في العتمة على مسافة قريبة منه.. لا تبعد سوى خطوتين أو ثلاث على الأكثر..
كانا يتهامسان بخفة وهيام.. ورقة دلال..
الحماسة بلغت أوجها بالشاب الذي لا يظهر غير خياله..
المشهد السادس:
هتف الشاب بهمسات كانت كافية لتصل نبضاتها إلى مسامعه:
"لأنَّ كلام القواميس مات،
لأنَّ كلام المكاتيب مات،
لأنَّ كلام الروايات مات؛
أريد اكتشاف طريقة عشقٍ
أحبك فيها بلا كلمات".
عندما سمع ذلك تنهد من أعماق قلبه..
تذكر أياماً من الماضي، يوم كان شعر نزار يتردد على لسانه.. أمَّا اليوم فلم يعد يفارق فناجين القهوة وصحون الطعام والملاعق والاشواك وعتبة المطعم، كما أنه لم يعد قادراً على الانسلاخ من "عباءة" النادل التي باتت تلاصق جلده مثل وشم.
وكانت خاتمة شعر نزار:
"كل الأساطير ماتت..
بموتك..
وانتحرت شهرزاد".
يقلِّب بصره مرة أخرى، ويتمتم: "ما أنا إلا بشر"، ويعود ليطلق تنهيدة أخرى عميقة، محاولاً التركيز في فنجان القهوة الذي أصبح بارداً مثل برودة المطعم..
من جديد يقترب نادل المطعم من الطاولة التي بدا منظرها جميلاً رائعاً، مع الشمعتين اللتين كانت تذوبان حسناً وبهاء، لكنه هذه المرة جاء من الخلف، يريد أن ينبهه إلى أن القهوة بردت، بل أصبحت ببرودة الثلج، وأنَّه تجاوز زمن القهوة.. وكأن للقهوة زمناً يجب إلا يتجاوزه..
"هل سيدي لم تعجبه ق___نا.. هل يرغب بشيء آخر؟".
جملة قصيرة قالها بهدوء.. لكن بكثير من اللؤم..
أشار بيده إلى بقايا الشمعة الأولى أمامه، تذوب نهايتها ببطء..
"هل تريد يا سيدي أن أشعل لك شمعة جديدة؟ هذا لو كنت طبعاً ترغب بتناول وجبة العشاء".
"هو يطردني.. يا له من نادل وقح.. ألا يدري أننا زملاء في المهنة، صحيح أنني أعمل في مطعم بسيط وليس من الوزن الثقيل كمطعمه؛ لكننا في المهنة سواء بسواء" .
قال ذلك في نفسه بعد أن ألقى عليه نظرة عتاب.
ارتشف القهوة دفعة واحدة، حمل جسده مودعاً المكان، تاركاً قطعة التوست على الطاولة دون أن تمسها يده.
أخرج من جيبه دريهمات.. أحصاها بدقة.. ثم وضعها دون اكتراث على الطاولة رغم وجود "طبق فارغ" مخصص لها. ومضى في طريقه دون أن يترك للنادل قرشاً واحداً إضافياً..
عندما وصل إلى مدخل المطعم؛ التفت نحو النادل، رمقه بازدراء نظرة نافذة..
هزَّ كتفيه لا مبالياً..
قلب شفتيه ساخراً..
ثم اختفى في ظلمة المكان.
في بعض الأحيان تتلاشى المعاني وتذوب كما يذوب السكر في كأس ماء عذب.. حيث يمتص الماء حبيبات السكر.. يلتحمان ويصبحان شيئاً جديداً، ما هو بسكر وما هو بماء، لو شربه سليم البدن استساغه، ولو شربه مريض السكر اعتلَّ أكثر..
++++++++++++++++++يتبع