رواية للشباب واليافعين
للقمر وجوه كثيرة
د. طارق البكري
رواية تحكي رحلة التحدي والتصدي لمعاناة الحياة
والصبر على الألم من أجل الانتصار على المخدرات وأوهامها
إهداء
إلى زياد
بطل هذه الرواية
وإلى كل الشباب المتشبثين بالحب والأمل
الحياة حلوة..
خسارة نضيعها بالمخدرات
طارق
للقمر وجوه كثيرة
حنين وذكريات
كلمة واحدة تثير مشكلة..
والمشاكل عادة تُعرف بداياتها؛ أمَّا نهاياتها فحدودها البحر..
انتقاده جريمة تستحق الاقتصاص، وإنْ كانت النتيجة قطيعة.. ومفارقة صديق وحتى حبيب.
الكلام عندما يسمعه المحب من حبيبه غالباً ما يكون سيد الكلام وألذَّه، ولو كان بارداً وصلباً وجافاً أحياناً.. أو ساخناً - بل لاهباً - في بعض الأحايين.. فهو أحلى كلام.. وأبرع ما يقال..
لكنْ عندما تتبدل الصورة؛ لا يعود الكلام سوى جرح على طريق..
والصورة لا تتبدل إلا في ظروفها..
لم يكن يوماً كما هو الآن؛ الوحدة تملأ ذاته..
تشعره بضجيج ثائر وحنين آسر متواصل إلى ماض صاخب بذكريات لا تزول.
ربما هذا هو السبب الذي جعله أسير لفافة ورق التبغ المحشوَّة بالحشيش، فسكن فراغات زمن متعاقب يستجدي وجعاً ويغالي في صرامته..
والوجع المرصود - المرصوص بعناية - كامن في الأعماق.
والأعماق مكان تستقر فيه الأشياء المثقلة بأحمالها..
الأشياء التي ليس بمقدورها أنْ تسبح ولا أنْ تطفوَ على سطح الماء لتصل إلى الضفة بأمان..
وهذه الأعماق تسع كل شيء، تتراكم فيها السفن المحطمة.. الكبيرة منها والصغيرة..
وأحياناً تستقر فيها الطائرات العملاقة.. بعد أنْ تفقد هيبتها وقدرتها على الطيران والنجاة..
أمَّا ملوك الأعماق من حيتان وقروش ووحوش.. فعندما يحين أجَلُها فإنَّها تفرُّ من دفء العمق المظلم وتلقي بجسدها الضخم أمام الضوء المنثور، تغسل وجهها بلوحات من نور..
لا ترضى بأن يُسكِنها الموت في أعماق الأعماق..
لا تستسلم له ولا ترفع راياتها البيض.. فما أصعب فراغات الزمن.. التي تنبت من الأعماق.
تلك الفراغات التي لا يسد فجواتها غير الألم..
ألمٌ متكرر متصاعد بلا تدرُّج..
كآلام مرض عضال مزمن لا يرجى شفاؤه، يرخي بثقله على الأحاسيس والمشاعر كلِّها حتى الثمالة.
ينقضُّ على المرء، ينسكبُ على المشاعر، يوقظُ في سُبات الأعماق ناراً متأجِّجه..
يُشعل في حناياه لهيباً لا ينطفىء..
فيتشظى قلبه، وتنكبتُ خيالاته، وتعصف في نفسه كل الرؤى المتهكِّمة.
وقد قال الشاعر:
كفى حزناً للمرء ما عاش أنَّه ببين حـبـيـب لا يـزال يـروّع
فوا حزني لو ينفع الحزن أهله ويا جزعي إن كان للنفس مجزع
فأي قلـوب لا تذوب لما أرى وأي عيـون لا تجـود فتـدمـع
(جميل بثينة)
وجه أسمر.. ودخان
وجْهٌ أسمر تفتَّحتُ وروده على بياض خدٍّ من طول معاداة للشمس..
شمس لم تعد تدخل داره بإذن ولا بغير إذن..
لا يَسمح لشعاعها بأنْ يتسللَ من خلف ستارة، لتلامس البلاط البنفسجي المزنر بالبياض، والمكحَّل بورد منشرح الصدر.. يتباهى بألوانه تحت الضوء..
في كلِّ زاوية من زوايا البيت طوق الماضي، وبقايا ثائرة حنيناً لا يتوقف، وتوقاً لا يعرف التناسي أو الهذيان.. وأعقاب سجائر تملأ المكان.. ودخان له رائحة غريبة.
منْ أيّ نسيج تُصطنعُ الذكريات..
ومن أيِّ صخْر تُنحت المدامع وتسكب العبرات؟
وكيف تتشكل في الضمائر هذه النوازع المرجانية.. شوقاً لمن نحب؟
والذكريات هي عادةٌ إدمانية مزمنة في النفس التوَّاقة إلى الأمس.. عادة ما تكون واهنة بسخاء، سامقة بدهاء..
تتعمْلَق في سفحها بتحفُّز..
قادرة على الصمود رغم الأهواء والصراعات والتحولات..
لكنّها ليست سوى جبل جليد يذوي شيئاً فشيئاً مع إشراقة كل شمس واصفرار قرصها، حين تقذف حممها على رؤوس الخلق بلا توقف ولا إشفاق..
غير أنَّ الشمس لم تدنُ بعدُ من هامة هذا الجبل الجليدي الشامخ..
الصامد بكبرياء في وجه تقلُّب الفصول..
المعانق بشوق حديدي وتداً راسخاً في الأرض، يعاند الريح، ويتثاقل على الرحيل.
لكنه لم وقع ضحية جاحد.. وطامع..
طوال الفترة الماضية لم تكن لديه رغبة بلقاء أحد، أو الاستماع لأيٍّ كان.. وحتى إلى نشرة الأخبار من راديو السيارة..
تلك السيارة الفارهة الحديثة - التي ورثها عن أبيه - بلونها الأخضر المشع كلون عينيّ أمه.. ولون عينيه.. لم يجرؤ على قيادتها يوماً واحداً..
باعها بعد مدة قصيرة جداً من موت صاحبها.. فهو لا يريد القيادة.. ولا التنقل على الطرقات ومواجهة أمواج السيارات العاتية فوق الإسفلت..
السيارات شرٌّ مستطير.. والطرقات وحش خطير.. سَلبا منه أغلى الناس.
وعندما يفقد الإنسان غواليه.. يتقمصهم، يعانق خيالاتهم في أشيائهم، في آثارهم التي تنبض بكل مرأى بهم.. تسقط أمامه معايير الزمن.. وتتوقف الحياة عند ماضيهم.. ويتجمد المستقبل لحظة فراقهم.
شعره كستنائي الناعم ينسدل على خديه كشلال أسود هادر منسكب من علٍ على صفحة من صخر كلسي ناصع البياض..
عيناه الواسعتان مسكونتان بلون نبيذي معجون برغوة تطفو كحبات لؤلؤ منثور على صفحة ماء النهر..
جيده ترتفع فوق منكبين عريضين، وعلى جبينه تدور حلبة مصارعة..
لكنّه الآن لا يعبأ بكل هذه السِّمَات الفريدة.. لأنه خسر معظمها.. فقد بريقها مع تكدس الهموم.. والغوص في دياجير الإدمان عن غير قصد وهدف..
آفة الإدمان
الشباب من حوله كانوا يدركون أنّه آسر لقلوب الصبايا بطلته البهيَّة.. وهامته السَنِيَّة، واعتدال قامته الفتية..
لكن المحنة كانت أقوى..
لم يستطع الصمود أمامها..
فسقط في آفة الإدمان..
لم يكن زياد في سني عمره التي لا تجاوز الواحدة والعشرين مثل أقرانه الشباب اليافعين.. اللحظات النادرة التي كان يظهر فيها في الشارع الذي يقع فيه منزله لا تحدث دائماً.. فمنذ ذلك اليوم الحزين لم يخرج إلى الضوء إلا لضرورة.
كان خروجه يقلُّ بتدرج منتظم مع الأيام، حتى انقطع عن الظهور أمام النَّاس تماماً..
طلب من حارس البيت الذي يقطن فيه أنْ يؤمِّن له حاجاته الأساسية مرة واحدة في الأسبوع، دون تواصل مباشر بينهما، فحاجاته بسيطة متكررة، وليس عنده طلبات يومية جديدة.. حتى نوع الطعام كان يختاره الحارس له على مزاجه..
لم يعترض زياد يوماً.. ولم يشتهِ نوعاً محدداً من الطعام..
المهم أن تكون مع كلِّ وجبة (سلطة الخسَّ مع جبنة بلغارية) كما كانت أمُّه تفضِّلها..
ولو اضُّطر لحاجة ضرورية - ولا يحدث هذا إلا نادراً - كتبَ للحارس ما يريد على ورقة صغيرة ثم يعطيه إيَّاها من وراء الباب...
وعندما يأتي الحارس يضع الطعام وما يطلبه عند الباب.. ثم يقرع الجرس ويرحل..
في الأشهر الأخيرة لم يخرج سوى مرة واحدة أو مرتين فقط، ما دفع فضولياً من جيرانه في إحدى هاتين المرتين على اللحاق به والسير خلفه، ليشبع نهمه الفضولي ويكشف "سرَّه"..
الخطوات كانت دقيقة ومحسوبة؛ دقائق عند الطبيب.. لحظات في الصيدلية..
وفي طريق العودة؛ زيارة إلى المقبرة.. ودموع عند قبري أمه وأبيه.
لم يكن بموقفه الصامت الحزين يسعى ليبدي اعتراضاً على مصيرهما..
وهل يفيد الاعتراض على حكم القدر؟
رضي زياد بقضاء الله وقدره.. لكنَّه لم يستطع التملُّص من عالم الأحزان.
شهور ثقيلة مرَّت على يوم وفاتهما..
منذ ذلك اليوم توقفت الحياة عنده.. وانتهى الزمن..
وما معنى الزمن من غير حياة يزيِّنها رفقاء يعيش الطير في عشهم..
وهل هناك حياة أكبر من أم؟ ورفيق أغلى من أب؟
وكيف ينسى الإنسان أجمل لحظات العمر دون أن يقف عند كل تفاصيلها وهنيهاتها، ويتسمَّر أمام شريط الذكريات التي تفنى ولا يبقى منها سوى صور، غالباً من تمحى مع مرور الزمن؟!
هي (جراح على الطريق) تندمل مع الوقت.. حتى جراح القلب تشفى.. وتبقى جراح الروح.
وكم من حبيب مات محبوبه فاستبدله بآخر بعد حين.. وكم فارق الناس من أحباء ومضت الحياة إلى الأمام بلا توقف وانتظار وانحسار..
هكذا هي الحياة؛ موت ونماء.. فرح وشقاء... انتصار وانكفاء.. فلا يمكن لموت أنْ يوقف الأرض عن دورانها.. ولا الشمس عن إشراقها.. ولا الكون عن اتساعه والبركان عن ثورانه..
خصام المحبين
في الأسابيع الأولى التي أعقبت موت والديه تخاصم زياد مع بعض زواره الذين حاولوا برفق أن يبعدوه عن ظلِّ الموت الذي بات غارقاً فيه حتى التوحد..
كان صوته يعلو فوق صوت من يسديه نصحاً..
قالتْ له يوماً، بعد أكثر من شهر من يوم الدفن.. وفيما كانت خلفه واقفة وظهره إليها ينظر ساهياً ساهماً إلى "اللاشيء"..
لا يريد عزاء ولا معزين:
"أسابيع طويلة مرَّت..
فإلى متى يستمر هذا الحزن القاتم، والصمت الصارخ يا زياد؟
دعهما..
دعهما يستريحان في جنتيهما..
هل تظن أنَّهما يسعدان بك وأنتَ على هذه الحال من القهر والذبول والانهيار؟".
صوت هادىء عذب يسري كالنغمات..
ينساب عطراً ساحر القسمات..
كشذا وردة تحلِّق بوسامة الفراشات.
كتلة زهرية معجونة بالندى.. شواها حزن الحبيب بلهيبه، أكثر من وقع الحدث المؤلم نفسه..
كان هذا كل ما قالته جارته سارة بعد إحجام طويل.. ومرحلة من الصمت أمام رهبة الموت.. تجنباً لهتك جدار العزلة التي ارتضاها لنفسه.
التفت إليها والحزن يغمر وجنتيه بدمع مثل جمر يسيل على برق..
أبعدها – كما ظنَّ - برفق ونأى عنها..
لم يدرك أنَّه بحركته التلقائية "العنيفة" هذه دفعها شديداً دون قصد..
جسدها الواهن الضعيف لم يقدر على الثبات أمام ردة فعله المفاجئة..
فوقعت أرضاً وسقطت كل العيون المزدحمة بالمكان عليها..
شكَّل تصرفه نحوها جرحاً عميقاً نازفاً..
جرحاً من (جراحات الطريق) التي تحتاج إلى وقت طويل لتندمل..
لا يريد الإقرار بأنَّ (الحيَّ أولى من الميت) كما يقولون.. فهل علينا أنْ ندفن ذواتنا تحت التراب من أجل من نحب، إذا ما قدَّر الله موتهم قبلنا..
هذا الزياد الذي يظهر للناس اليوم لم يعد زياداً الذي يعرفه أهل الحيِّ والأقارب والمحبون..
لم يعد بينهم من يتقبل تصرفاته الجافة القاسية الجارحة، فيما هم جميعاً يبدون له كل المودة والحب والمؤاساة.. فمهما كان الحزن عميقاً لا يوجد مبرر للإساءة إلى الآخرين..
يمكن أن يتفهم الآخرون صدمة الموت حال وقوعه، لكن لا يمكنهم الإذعان للموت وقبول استمرار صدمته ردحاً طويلاً من الزمن.. والبقاء في حالة حداد متواصل وخصام مزمن مرٍّ مع الجميع.
ومن يومها لم تعد تكلمُه، ولا حتى تسأل عنه..
حب برئ.. لكن!
الجميع كان يعلم أنَّ حباً بريئاً نقياً صافياً جمع بين قلبيهما منذ الطفولة والصغر..
لكنَّ قلب سارة لم يقبل الإهانة..
لم تكن قادرة على تحملها..
لقد أهينت علانية.. وكثير من الناس كانوا مجتمعين في بيته، أغلبهم من الجيران والأصدقاء..
أبوه وأمُّه كانا يعتبران أهل (الفريج) أسرتهم الكبيرة.. وكان زياد نجم الأيام الخالية.. يرتدي ثوب الممرض ويساعد والديه ما أكسبه خبرة طبية كبيرة وممارسة فريدة قلَّ أن يكتسبها من لم يدخل كلية الطب..
وكان والداه يخصصان الكثير من وقتيهما من أجل أبناء (الفريج).
أمُّه طبيبة أطفال وأبوه متخصص بالأمراض الصدرية.. يذهبان صباحاً إلى المستشفى، وعصراً إلى عيادتهما المشتركة..
وفي المساء يتحول بيتهما إلى عيادة مفتوحة للأهل والجيران.. ليس لأنهم فقراء.. بل أصدقاء.
كانا حلمهما الكبير أنْ يصبح ابنهما الوحيد طبيباً مثلهما..
علَّماه الكثير الكثير عن الطب..
رافقهما في أصعب الأوقات..
أعطياه من علم الطب ما لا تعطيه الجامعات لطلابها.. وذلك قبل أن يكمل الثانوية ويدخل كلية الطب ويتخرج ليحقق حلمه وحلمهما بالذهاب إلى أوروبا للتخصص.. وتحديداً فرنسا.
فرنسا؟!!..
لا ينسى زياد فرنسا أبداً..
البلد التي جمعت أبويه في إحدى جامعاتها.. وحدث ما حدث..
لطالما سافر معهما إلى فرنسا، البلد الذي شهد حبهما وزواجهما.. وبعد ذلك ولادة ابنهما الوحيد بعد عشر سنين من الزواج..
كان يتذكر كلَّ اللحظات هذه ويعيش فيها ولها.. لا يريد أن ينساها... أو أن يتخلى عنها.. لا يريد أن تتكون لديه ذكريات جديدة لأحداث جديدة.. يعيش مثل شيخ عاجز، تفتحت أمامه أبواب الذكريات ونوافذها..
لم يعد لديه غير الماضي..
ذكريات نامت مع مرور الأيام، لكنَّها عادت واستيقظت والتقت في زاوية الحياة النهائية، حيث تستقر الأحداث في الأعماق، ثم تطفو على السطح عند استقرار الموج وخفوت سطوة رياح الحياة..
عاش بينهما عشرين سنة كاملة..
احتفلا معه قبل أسابيع من وفاتهما بعيد ميلاده العشرين..
ثم سافرا إلى فرنسا - لوحدهما لأوَّل مرة - للاحتفال بذكرى مرور ثلاثين عاماً على زواجهما.. كان لديه امتحانات في الجامعة.. كان يستعد للامتحانات الأخيرة في السنة الثانية بكلية الطب عندما وصلته أنباء من فرنسا..
"انقلبت سيارتهما على الطريق السريع.. وتوفيا ولاحقاً في المستشفى"..
علم من أحد الأطباء هناك أنَّ أمه وهي في لحظاتها الأخيرة كانت تردد:
"زياد.. زياد.. زياد".
عبثاً يحاول الإنسان أن يبدل رؤاه أو يصطنع غير ما يستقر في ذاته وهواه..
عبثاً يتمرد على الواقع ويقاوم العاصفة.. ومع ذلك فإنَّ طبيعة الكون تدفع المرء إلى التحدي.. وعدم الاستسلام بسهولة.. هذا في الحالات المعتادة..
لكنَّ زياداً لم يكن واقعه مشابهاً..
صفات التحدي في النفس البشرية لم تعد مألوفة عنده.. فقَدَ كلَّ ما كان متعملقاً في قلبه..
جعل لبَّه خزانة للحزن وأغلق بابها، حقيبة الذكريات لم تعد تفارق ظهره..
استجاب لدعوة الحزن دون مناقشة.. وتناسى دعوات الفرح التي يبسطها له عمره الوردي ومستقبله الواسع الرحب.. وغرق في بحر من الإدمان.
سقط في واد سحيق على طريق الآلام.. ينظر إلى العدم..
يسكن فراغات.. يعيشها..
يتماهى مع سقم الجراح ونزفها..
يتقلب على فراش الشوك البري المسنن..
لا يعبأ بالدم المسكوب..
ينادي الموت فلا يجده..
كان حاله مثل قول الشاعر المهلبي:
ألا موت يباع فاشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي يخلصني من الموت الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالوفاة على أخيه
الدكتورة مريم
لم يعد يحفل بكل الأشياء الجميلة من حوله والتي كانت ترسم له مستقبلاً وردياً.. تخلى عن الدراسة وعن كثير من الأمور التي كانت تربطه بالحياة..
الدكتورة مريم.. الطالبة المتفوقة في الجامعة التي كان زياد يدرس فيها، حاولت مراراً أنْ تعيده إلى مقاعد الدراسة حيث يجب أن يكون..
لكنَّها عجزت..
تكلمت مع عميدة الكلية الدكتورة مشاعل.. شرحت لها الأمر..
ذهبت العميدة بنفسها إلى بيت زياد..
لكنَّه لم يفتح لها الباب.
انتظرت طويلاً.. فهي تعرف زياداً، كان طالباً عندها في أحد الفصول..
زارته مع عدد من المدرسين الأطباء إثر الحادث للتعزية..
قابلهم بفتور..
لكنه اليوم لا يريد أن يفتح لها الباب..
فعادت حزينة..
كلية الطب حلم جميل يراود كثيراً من الشباب..
يتدافعون للفوز بمقعد فيها.. ولا يصل الواحد منهم إلى تحقيق هذا الهدف بسهولة..
لم يقرر التخلي عن الجامعة فقط.. بل عن كل شيء..
حتى أنَّه لم يسأل عن ممتلكات أبيه.. وتحديداً عن إيراد عمارة في شارع راقٍ في المدينة..
طلب من وكيل العمارة أنْ يضع نصف الإيجار في حسابه في المصرف.. وأنْ ينفق النصف الآخر على المحتاجين إكراماً لأبيه وأمه.. دون أن يدرك أنّ وكيل العمارة لا يفعل ذلك كما يجب..
صحيح أنّه كان يضع جزءاً من المال في المصرف في حساب زياد لكنَّ هذا الجزء لا يصل إلى نصف إيراد العمارة.. ولا حتى ربعها.. أمَّا الجزء الأكبر فكان يضعه في جيبه.. دون أن يخصص نصف الإيراد للمحتاجين كما طلب منه زياد.
وعلى أي حال..
لم يكن زياد يهتم بذلك..
تكفيه بضعة دراهم، ينفقها على شؤونه الضرورية..
حتى أنه لم يشتر ثوباً واحداً منذ وفاة والديه قبل سنوات..
لم يضف قطعة أثاث جديدة إلى أثاث البيت..
كل ما يهمه "لفافات التبغ" التي تصله من حين لآخر..
بدأ الأمر دون أن يدري..
كان المخدر يدس في اللفافات بغير علمه.. حتى أدمن عليها.. وباتت مصدراً لراحة مؤقته سرعان ما يستيقظ منها.. فصارت مطلبه الأول..
كل شيء آخر استمر على حاله..
نعم.. على حاله.. باستثناء واحد؛ الهاتف انقطع عن الرنين..
فبعد أن كان جرس الهاتف لا يهدأ وتنبض فيه الحياة بلا انقطاع.. فصل زياد الهاتف عن حرارته!..
لم يكن زياد مهتماً بعد أن فقد "أعزّ من في الوجود"..
بدا وكأنّه يريد أن يعاقب نفسه..
سمعه البعض يردد:
"لو كنت معهما في السيارة لذهبت إلى حيث هما الآن..
لا عيش لي بعدهما أبداً..".
عودة سارة
بعد أسابيع على ذلك الموقف..
يوم دفعها بيده وانصرف عنها.. عادت سارة التي تصغره بسنة أو سنتين تطرق باب بيته.. الباب موصد مثل باب سجن حديدي طال عليه العهد، فترك الزمان على أطرافه آثار الهجر والنسيان..
كأنَّ الحُبَّ عندما نقرر كيف يكون؛ إمّا ناراً تأتي على الأخضر واليابس أو دخاناً يتبخر دونما عودة..
ألا ينفع الماء ينساب سلسبيلاً عندما يلامس الحياة برقة؟!
بيت زياد مقابل بيتها إلى جانب اليسار..
بيت كبير وواسع، يفصل بين بيتها وبيته شارع عريض..
وقفت صامتة تنتظر..
طرقت الباب مرة ثانية طرقاً أشدَّ من الطرقات الأولى..
لكنَّ الباب ظل صامتاً جامداً لا يتحرك..
لم يكن هذا الباب ليغلق في وجهها يوماً من الأيام..
كانت العيون تَبْرُق عندما تراها والشفاه تنفرج على ابتسامات عريضات..
هذا الباب الذي لم يفتح اليوم؛ كانت سيدة المنزل تستقبلها به بكل حب وعطف وحنان..
تدرك بضمير الأم مشاعر ابنها..
تتلمس ذلك الودُّ المغزول في العيون.. الممتزج بالروح قبل القلب.. معاً..
أهلها وأهله من أعزّ الأصدقاء، عهد طويل من الجيرة والمحبة، يتزاورون يوماً بعد يوم.. لسبب أو دون سبب.. قبل توقف الزمان عند لحظات الفراق.
انتظرت..
وجهها في اتجاه الباب مباشرة..
تكاد تلتصق به وتمتصه إليها..
فجأة..
حركة وظلال من خلال عين الباب..
هذه العين السحرية التي تسمح للناظر من خلالها أنْ يرى الناس دون أن يَرَوْهُ..
هذه العين التي تكشف لسيدها الكثير.. وتخفي عن غيره الكثير..
دقَّ قلبها..
هذا القلب الصغير الهامس..
الساعي إلى الوداعة برفق وأناة..
ازدادت النبضات والدقات هلعاً..
ظنَّت أنَّه لو مرَّ أحد في المكان لسمع صوت قلبها الصغير..
هو على مقربة منها ويسمعها..
سرى في لبِّها شعاع من طمأنينة انطلق من الأعماق..
شعور محب غفر للحبيب زلاته..
همست بصوت هادئ حزين خافت:
"سامحتك يا زياد على ما فعلت..
كلِّمني قليلاً..
لا يجوز أن تبقى هكذا..
شهور مرَّت..
أنسيت كل شيء بيننا؟!
سأذهب الآن وانتظرك في الحديقة نفسها التي كنا نلهو فيها في أيام الطفولة.. سأذهب إلى هناك مباشرة..
فلا تتأخر عليَّ..
الجو بارد وأخشى أنْ أصاب بالبرد والزكام".
صوتها مثل صوت حمامة صغيرة..
تتحرق شوقاً لحضن أمِّها التي غدت منذ الصباح تبحث عن طعام تسدُّ به جوعها الدائم الذي لا يدرك شبعاً ولا ارتواء، مع ندرة الحَبِّ وقسوة الطبيعة، وانقطاع المطر.. وتيبس الندى على الغصون.
خرجت سارة من مدخل المبنى الخارجي.. بعد أن أودعت قلبها على عتبة الباب الموصد بإحكام..
موصد على الحياة والأمل..
لا شيء يبدو قادراً على أنَّ يثنيه عن منفاه الاختياري..
منفى لا يعرف زمناً يقف عنده.. ولا يمكن لأحد اقتحامه..
فهو القاضي وهو الحاكم.. وهو السيَّاف والمحكوم..
ما أجمل وجه القمر في صفائه وسكونه..
وجه ساكن صامت منير..
يسكن السماء، لكنه يلقي بجماله على الأرض وساكنيها..
تذكرت قول نزار في (خبز وحشيش وقمر):
عندما يولدُ في الشرق القمرْ..
فالسطوحُ البيضُ تغفو
تحت أكداس الزَهَرْ..
يترك الناسُ الحوانيت ويمضون زُمَرْ
لملاقاةِ القَمَرْ..
يحملون الخبزَ.. والحاكي.. إلى رأس الجبالْ
ومعدات الخدَرْ..
ويبيعونَ.. ويشرونَ.. خيالْ
وصُوَرْ..
ويموتونَ إذا عاش القمر..
نسيمات الشتاء الفاتنة
مضت سارة تنتظر..
لكنْ.. دون أمل ولا رجاء..
في انتظارها تقلب الجو..
ثم صحا على نسيمات شتاء "ربيعية"..
نسيمات فاتنة لا تأتي إلا قليل.. من حين إلى حين بعيد..
الورود من حولها تستذكر ماضي الحياة..
"هنا لعبنا..
هنا أكلنا وشربنا..
هنا جرحت يديَّ عندما وقعت على الأرض، فساعدني زياد وأحضر منديلاً يمسح نقاط الدم..
كان يمسح الدم بيد..
ويغزل بالأمل فرح المستقبل.. باليد الأخرى.
هنا زرعنا وردة..
وهنا افترشنا التربة..
وهنا ضحكنا كثيراً عندما كبرنا على لهو طفولتنا..
يا لطفولتنا!..
وهل تنمو الورود على الأحلام؟..
على غصن من أغصان تلك الشجرة جلسنا يوماً..
انكسر الغصن وهوى فهوينا معه.. كادت ضلوعنا تنكسر كما انكسر الغصن..
ضحكنا طويلاً من طيشنا.
.. هناك.. آه!.. ما زلت أذكر!..
كم رششنا الماء على بعضنا بعضاً..
وفي مرة وقعت على التراب الممزوج بالماء.. فعدت إلى البيت وثوبي بلون جديد.. وما زلت أسمع صوت أمي واستنكارها يتردد في سمعي حتى اليوم.
وهذه الأرجوحة.. لها في ذاكرتي حكايات وحكايات..
هو يتأرجح..
أنا أتأرجح..
سباق على التأرجح مستمر..
وعندما كنا نأتي ونجد من سبقنا إليها.. نحزن..
اليوم هي تنتظر بشغف من تؤرجحه..
ومن يا ترى يأتي ليتأرجح في مثل هذا اليوم البارد؟!".
وانتهى كلام سارة.. لكن الذكريات لم تنته..
وعادت سارة بعدما يئست من مجيء زياد..
وفي المساء ذهبت إلى الطبيب..
مرض شديد أصابها بعد انتظارها الطويل تحت المطر..
كانت تحلم بقدوم زياد.. لكنْ زياداً لم يأتِ ولم يتحققِ الأمل..
الرياح والأمطار أكثر رأفة ممَّا لاقته من زياد..
الأمطار تهدأ من حين لآخر..
الرياح تمرُّ قربها..
تلامس وجهها بحنان ثم تمضي..
تعبث بشعرها المبلل بالماء..
تتركه يمرح بعد أن تداعبه بفرح..
إن قسوة الطبيعة قد تكون أحياناً أحن من البشر..
وأرق من قسوة البشر..
وظلم البشر..
لكنها تعي أن في أعماق زياد حناناً أكبر من أي ظلم.. وقسوة..
إصرار سارة
غابت سارة أياماً في بيتها لا تغادر سريرها حتى دنا شفاؤها ولم يكتمل..
أوَّل خروج لها كان إلى بيت زياد، وهي لا تزال في وعكتها..
تطلُّ شرفة بيتها على نافذة صالة بيته.. التي باتت مغلقة على الدوام.. لا تضاء أنوارها منذ تلك الحادثة الحزينة..
هذه النافذة لطالما شهدت زقزقة العصافير.. وتنسيم الأزاهير..
والشرفات لا تطل فقط على الشوارع.. بل تطل على حكايات الناس، تخطُّ في كتاب الأيام حروفاً وجملاً..
أصيص النبتة الخضراء خفَّت عيدانها.. واصفرَّت أوراقها.. ثمَّ جفَّت وتفتتت وانتثرت.. وماء الحياة فيها تقرَّحت عروقها.. وتشققت. وأنهار الأحلام تبدد هديرها..
كلُّ الرؤى على الأحلام مرَّت وانقضت..
خفُتَ أوراها كما يخفت شعاع العمر في شمعة الحياة..
وما أصعب الحياة من غير أحلام ترتسم على ضفتي نهر.. وما أعتم الليل من دون قمر.
كانت تحلم أن تقول كما قيل لنزار:
هذا أنتَ.. صاحبَ الصِغَرْ؟
ألا تزالُ مثلما كنتَ.. غلاماً ذا خَطَرْ؟
تجعلني.. على الثرى.. لُعْباً.. وتَقْطيعَ شَعَرْ..
فإنْ نهضْنَا.. كانَ في وُجُوهنا ألفُ أثَرْ
زمانَ طَرَّزْنَا الرُبى لَثْماً وألعاباً أُخَرْ
مُخَوِّضَيْنِ في الندى..
مُغَلْغِلَيْنِ في الشجَرْ..
أيَّ صبيٍّ كنتَ.. يا أَحَبَّ طفلٍ في العُمُرْ؟
وتحلم سارة أنْ يكون جوابه:
الله ما أكْرَمَها تلك الذِكَرْ
أيَّامَ كنَّا كالعصافير غناءً وسَمَرْ
نسابقُ الفراشةَ البيضاءَ
ثمَّ ننتصِرْ
وندفَعُ القواربَ الزرقاءَ في عَرْضِ النَهَرْ ..
وأخطُفُ القُبْلَةَ من ثغرٍ بريءٍ.. مُخْتَصَرْ ..
ونكسِرُ النُجُومَ.. ذَرَّاتٍ ونُحصي ما انكسَرْ ..
فيستحيلُ حولَنا الغروبُ.. شَلالَ صُوَرْ
حكايةٌ نحنُ.. فعندَ كلِّ وردةٍ خَبَرْ !..
إنْ مرةً.. سُئِلتِ قُولي:
نحنُ دَوَّرنَا القَمَرْ ..
قريب سارة
زياد اليوم ينام على بساط في غرفة نوم أمِّه وأبيه التي تقع من الجهة الخلفية من المنزل.
يعشق هذا البساط القديم الذي يحمل ذكريات قديمة..
في خيوطه تنتظم حكايات الماضي التي تحتسي معالم الحب القديم..
لا يفارق جوار سريرهما إلا لحاجة..
يتأمُّل الغرفة وما فيها من أشياء ولا أشياء..
يتفحَّص الجُدُرَ التي عزف أبوه عليها صنوف الرسم.. بأنغام الريشات الملونات.
وفي جدار - إلى يمينه - وجه طفل سعيد..
وفي جانب علوي من الجدار نفسه صورة كبيرة لمجموعة أطفال يلتفون حول أبيه وأمِّه، يلوحون بأيديهم "فرحين" في دولة بعيدة، بثيابهم المقطعة التي لا تتناسق مع البسمات التي تبزغ من عيونهم قبل شفاهم وتشير إلى فرح ما..
زارا تلك الدول ضمن حملة طبية لعلاج حالات لا تجد من يعالجها..
كان زياد برفقتهما كالعادة..
في هذه الغرفة أسرار الحياة..
ثلاثون عاماً في هذه الغرفة..
يا لها من فترة طويلة في حساب الزمن.. لكنها قصيرة في حساب العمر.
راحت سارة تطرق الباب بيديها الواهنتين..
تطرق بشوق كمن يبحث عن ماء في وسط صحراء..
عن شمس في سماء ليل..
عن وردة نبت على صخر..
تريده أنْ يتفهم آدميتها..
أن يتذكر أنهما "دوَّرا القمر".
أنْ يُدرك أنَّها حزينة مثله..
أن يستوعب حزنها وألمها من أجله..
فهي لم تعرف الفرح منذ وفاتهما..
عيناها الدامعتان تشهدان على ذلك..
أبواه كانا أبويها..
كانا مثل نجمتين تضيئان في نفسها أحلام الحياة.. ومصابيح الأمل..
مثل ريحانتين تتنسم عبيرهما..
مثل ماء عذب يمر على الجراح فيطببها..
لكنَّ الحياة لا تعطي حتى تأخذ.. تعبر طريقها دون اكتراث بأحد..
تصيد بسهام الموت من تشاء وقتما تشاء..
قالت بصوت مرتجف تغلِّفه بحة البرد والزكام:
"افتح يا زياد افتح.. يكفي..".
رأت خياله يتحرك من خلف عين الباب..
قالت بصوت منخفض كيلا يسمعها الجيران:
"اسمعني يا زياد جيداً..
لي قريب يريد أن يتزوجني، يلحُّ على أبي كي يزوجني إيَّاه.. وأنا أرفض باستمرار..
انتظرتك في الحديقة قبل أيام لأخبرك بذلك، لكنك تركتني رغم البرد الشديد حتى أصبت بالمرض وكدت أموت، مكثت بالسرير طوال الأيام الماضية..
سأذهب الآن إلى الحديقة نفسها.. لا يهمني برد ولا زمهرير..
سأنتظرك اليوم أيضاً حتى ولو مرضت ودخلت المستشفى أو حتى القبر..
عليك أنْ تعلم أمراً واحداً؛ إنْ لم تأتِ هذه المرة سأقبل بقريبي عريساً لي.. لأنَّ عدم حضورك يعني أنَّك قطعت آخر أمل لي معك..
لا تتأخر..
سأنتظرك حتى غياب الشمس..
وبعدها سأنفذ - مرغمة - ما أخبرتك به"..
لم تكن سارة بهذا تهدد زياداً.. فليس هذا هو أسلوب المحبين..
لكنَّ والد سارة يريد أن يفرح بابنته قبل أن يموت هو أيضاً..
يريد أن يرى أحفاده منها..
أمّا زياد فلم يعد زياداً الذي تعرفه..
وهل على الإنسان أنْ يربط مصيره إلى ما لا نهاية بشخص قرَّر من طرف واحد وضع إطار محدد لحياته، دون أي اعتبار للآخرين؟!
وفي المقابل؛ فإنَّ زياداً أنهى كل عقد له مع الحياة.. وارتبط بلفافة التبغ المحشوة بالحشيش..
لا يريد حتى أن يتنشق عبير الأرض.. ولا أن يفتح نوافذ البيت على الضوء..
لأن الدخان الأسود ملأ أحشاءه..
ولو كان بمقدوره..
لسدَّ أنفه قبل أذنيه، وكمَّم فمه وكبل لسانه، وغطى بصيرته قبل بصره.. وقطع كل حبل يصله بالدنيا..
وجلس منتظراً الموت الذي قالوا فيه:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك مصيباً بالذين أودّهم كأنك تنحو نحوهم بدليل
زغاريد الحزن
بعد أيام..
انطلقت الزغاريد من بيت سارة.. وانسابت تملأ تفاصيل الشارع..
الناس هنا يحبون الفرح..
يتشاركونه كما يتشاركون الهواء..
لكنَّهم لم يكونوا سعداء هذه المرة.. فقصة زياد مع سارة لا تخفى على أحد.. والكل متعاطف مع زياد.. فهو لا ينقصه حزن جديد..
وصل صوت الزغاريد إلى أذنيّ زياد..
دفنَ رأسه بين وسادات سرير والديه الفارغات..
وضع الوسادات على البساط يتنشق عبير ما فيها من أثر.. بللها بدموع سخيَّة لاهبة..
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تبللت الوسادات بدموع زياد..
الوسادات لونها بات شاحباً من كثرة دموع الليالي الغابرة..
لم يكن يغسلها حتى لا يذهب أثر والديه منها..
كان يشم رائحة والديه متشربة في كل تفاصيل المنزل..
فستان والدته ليلة عرسها ما زال في خزانتها الخاصة..
ارتداه في ليلة من ليالي الحزن.. كان جسمه الناحل الدّقيقُ المَهْزول؛ أرقُّ من جسم أمِّه في عرسها..
اشعل سيجارة معبأة بالسم.. وكان لسان حاله كقول بشار بن برد:
إنَّ في بُرْدَيَّ جِسماً ناحلاً لوْ تَوَكَّأْتِ عليه لانْهَدَمْ
وقف أمام المرآة يتأمل الفستان الأبيض الجميل.. المرصَّع بأنواع من الزخارف والأشكال الوردية والمذهبة والبراقة.. التي ما زالت تلمع رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على يوم العرس..
كان المشهد غريباً..
رجل يرتدي فستان عرس أبيض..
كان يحلم بأمه..
في كل أنحاء البيت ذكريات وذكريات..
كل شيء يوشي بالحياة بين أحضان أبويه..
لم يفرط حتى بعلبة البودرة التي تحتفظ بها أمه هدية أمها ليلة زواجها..
"عجيب أيَّها الزمن..
قبلتُ قضاءك وحكمك.. لكنَّي لا أستطع الخروج مما أنا فيه.. وسأبقى في ماضيَّ أحيا.. فلا معنى لمستقبل عندي دون أبي وأمي"..
لم تعد الحياة تستحق أن يحيا فيها.. ترى من أي نسيج صنعت مشاعره..
وهل يصل الإنسان إلى حيث هو، فيفني نفسه فيمن يحب!..
كيف يمكنه التخلي عن كل الأشياء الجميلة في الكون وينطلق إلى عالم الوحدة والتماهي، حتى الانصهار الكامل، والاكتفاء بتعذيب النفس في براري الوله الجارف بلا اعتبار!
نفس الإنسان لا تتقبل الصدمات بسهولة.. لكنها عادة ما تنحني أمامها، وتستسلم لقدرها..
هو لا يعترض على القدر..
بل راض به أشد الرضى..
وهذا هو الغريب..
فقد اعتكف مع الحزن لا يفارقه، وعانق أشباح الذكرى لا يغادرها.. حتى توارى خلف حجاب من خيال منتمٍ إلى واقع، في عباءة ذكريات.
صورة والديه قرب السرير وهما يضحكان في آخر ذكرى زواج لهما؛ في حديقة مطعم باريسيٍّ شهير، حيث اعتادا أنْ يقضيا ذلك اليوم من كل عام، ما تزال في مكانها.
الصورة هذه مثل قمر لا يترك سماءه، يسبح في فضاء الكون يلهو ويلعب.. لكنَّ وجه القمر غاب عنه قبل زمن..
هل نسيَ القمرُ وجهه الحقيقي بوجوهه المتعددة المتكررة في روعتها من شهر إلى شهر.. ومن يوم إلى يوم؟!
زياد يذكر جيداً تلك الصورة التي التقطها بنفسه في ليلة مقمرة.. ومن كاميرته الخاصة..
يقال أحياناً:
"مع أنك تملك ذكريات كثيرة؛ لكنك لا تستطيع أن تختار ما تتذكره.. فالذكريات هي التي تفرض نفسها وقتما تشاء".
أما زياد فيقول:
"المشكلة أني مكبل بلا مساحات..
سائر بلا طرقات..
طائر بلا مسافات..
أقطع آلاف الأميال فلا أتجاوز حدوداً.. ولا أعبر طريقاً..
وأعود كسيراً مثل طير مذبوح.. كلاجىء بلا وطن أسكنه.. أو فرح يسكنني..
فأذبل".
"الذكرى السعيدة عندما تعجن مع آلام صاحبها، وتخبز في أفران قلبه المستعر شوقاً إلى الماضي.. تنتج خبزاً يفيض من حزن أحرقه لهب النزع الأخير".
هذه الصورة واحدة من صور نادرة لا يبدو فيها معهما..
كانا حريصين على أن يرافقهما إلى كل مكان يذهبان إليه.. كان يوقف المارة ويستأذنهم بتصويره معهما.. يحب ذلك.. يريد أن يوقف الزمن عندهما.. هذا الحب "البنوي" المسكون بالتشكُّل الوارف المظلِّل لكل الأحاسيس..
حب يستعصي على الفراق..
حب يغلب الحياة.. لكنَّه لا يقوى على مواجهة الموت والانتصار عليه..
وعندما يشتعل الحب تذوي المسافات.. وتعصف بالنفس نيران شوق تفيض بمشاعر لا حد لها..
ولعل هذا هو السبب الذي ولَّد في نفسه إحساساً بالذنب لا ينقطع..
ربما لو كان معهما لما انقلبت السيارة التي كانا يستقلانها..
ربما لو قادها بنفسه لما انحرفت عن الطريق وسقطت في الوادي..
كان يعرف أنّ بصر والده في الفترة الأخيرة أصبح ضعيفاً.. وخصوصاً في عتمة ليل لم يزره قمر.. وعظمه وهن، ولم يعد قوياً مثل السابق.
هذه الصورة تبكيه كلما نظر إليها..
تحزنه..
تصيبه بالأسى..
هو يعلم أنّ في الخزانة المجاورة كميةً كبيرة من ألبومات الصور..
هل يصدق أحد أنّه منذ الحادثة قبل أسابيع طويلة لم يفتح باب هذه الخزانة ليلقي ولو نظرة واحدة على الصور القديمة التي تملأ مساحة واسعة منه.
"لا بأس..
لا يهم..
فكل الصور حية في ذاكرتي..
باتت اليوم تبدو وكأنها حدثت يوم أمس..".
الذاكرة تنتعش أكثر ما تنتعش عند توقف الأحداث وتجمُّد عقارب ساعة الحائط في اتجاه ما.. لا يوجد للذاكرة تاريخ.. ولا زمن.. ولا دقَّات..
لولا صوت إطارات السيارات التي تزعق على الطريق؛ لم يميّز بين ساعة من ليل أو ساعة من ضحى، فالستائر السميكة تحجب الواقع.. لكنها لا تمنع الذاكرة من التسلل والتمدد إلى حيثما تشاء.
وكيل العمارة
من وقت إلى آخر يأتي وكيل العمارة ليسلمه بعض المال الذي يحتاجه..
يدس في علبة صغيرة قليلاً من "سموم النسيان"، والأوهام القاتلة، والخيالات المدمرة..
هذا الوكيل الذي عرف كيف يستفيد من حجم المعاناة؛ الجشع أعمى قلبه..
جعله يدس قليلاً من "الحشيش" في سجائر زياد..
كان زياد "يدخن" ويجد راحة من آلامه.. فيطلب المزيد حتى "أدمن" ولم يعد يريد غير هذا الإدمان لينسيه آلامه وأحزانه ولو بشكل مؤقت..
وكيل العمارة كان يمشي متثاقلاً..
يجرُّ قدميه ببطء كأنه يسير نحو المقصلة..
وفي كل مرة كان يضع المال في مغلف لونه يختلف عن المرة السابقة ومع المغلف سجائر زياد..
كأنَّه يريد ألا يعتاد زياد على لون واحد!..
كما أنَّ حجم المغلف لم يكن واحداً في كل مرة..
ومع المال تتجاور السموم التي اعتاد زياد على تناولها.. حتى سقط في همِّها أسيراً، فحولته من شاب حرٍّ إلى سجين يدمن العبودية..
وكان وكيل العمارة بعد أن يقوم بمهمته بكل "أمانة" يعود إلى سيارته برشاقة "حمامة".. وكأنه لم يفعل شيئاً.. ولم يقترف إثماً..
يعود بخفة فيبدو غير ذلك الرجل القادم قبيل لحظات..
رغم أنَّه ليس خفيفاً في ظله أو في وزنه..
حتى أنه ليس مثل ثور!..
فهو صاحب هيئة ضخمة مثل جبل، وكتفين عريضين مثل لوح خشب مستو..
ووجهه طويل بدت عليه خطوط الزمن.. وتحت أنفه شارب رفيع يحتفظ به منذ شبابه.. يذكر ببعض أبطال أفلام الأبيض والأسود..
ذلك الزمن الجميل الذي انقضى وانتهى.
يدخل العمارة دون أن يلقي التحية على الحارس..
والحارس رجل أمين مثقف..
قرأ كثيراً حتى يجد حديثاً لائقاً يتحاور فيه من الناس والجيران..
معظم الصحف التي تصل فجراً إلى سكان العمارة يقرأ تفاصيلها قبل أن يصعد بها إليهم صباح كل يوم..
وأحياناً ينبههم إلى الأخبار المهمة لكي يحرصوا على قراءتها..
يعلم أنَّ القراءة كنز من كنوز الدنيا..
وأكثر ما يأسف عليه أنه لم يتمكن من متابعة الدراسة بسبب موت أبيه وهو صغير لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.. واضطراره للعمل حتى يساعد أمَّه وإخوته الصغار..
كان تعاطف الحارس مع زياد كبيراً..
لكن مشكلة الإدمان كانت أكبر مشكلة بالنسبة له..
ولا يعرف كيف ينقذه منها..
فقد اختبر من قبله مشاعر الموت والفقد..
وأحسَّ بكل نار البُعد..
وهو يعلم أنَّ آلام زياد أكبر..
لكنَّ الألم هو الألم، سواء أكان صغيراً أم كبيراً.. وعلى من يصادفه أن يتقبَّله ولا يجعله لصيقاً به على مدى الحياة.. وأن لا يضعف ويسقط في براثن الإدمان مهما كانت الأسباب...
وقد اعتاد الحارس على فظاظة وكيل العمارة التي ورثها زياد..
لم يكن يهتم بالأمر، بل يبادله النظرات نفسها.
يدخل العمارة مباشرة، يمشي بحذائه العريض، يضرب الأرض به كجندي محترف في يوم استعراض عسكري..
وعندما يصل إلى باب شقة زياد يقف للحظات، ثم يضع المغلف على بساط صغير أمام الباب الموصد بوجهه منذ فترة طويلة..
ويمضي بعد أن يطرق الباب طرقات خفيفة متتالية..
في هذه اللحظات يبدو وكيل العمارة وكأنه يريد أن يقفز بسرعة بعيداً..
يؤدي وظيفة "مملة" يريد أن ينتهي منها ثم يعود إلى أعماله الأخرى.
زياد لا يريد أن يلتقي بأحد من الناس..
وهذا الأمر لم يكن يزعج وكيل العمارة على الإطلاق.. بل يستهويه ويروقه كثيراً.. فلا أحد يحاسبه ولا أحد يسأله ما قبض وما أنفق.. وإلى أين يذهب نصف إيراد العمارة المخصص للخير؟..
شيء رائع حقاً أن يكون أصحاب الأملاك على هذه الشاكلة..
إنّه يريح عامله إلى أبعد حدود.. فلا يوجد من يحاسب ولا من يسأل..
وكيل العمارة لم يكن في الأساس مخلصاً لوالد زياد الدكتور رمزي، فقد كان الدكتور رمزي وزوجته الدكتورة صفاء مشغولَين دائماً بالمرضى، ما بين المستشفى والعيادة معظم ساعات النهار.. ثم تطبيب أبناء الحي في فترة المساء..
منحاه كامل الحرية والثقة للتصرف بالعمارة وبجزء من إيرادها؛ لتغطية مصاريفها المعتادة..
وكان الدكتور رمزي يقابله من حين إلى آخر للاطلاع السريع على الحسابات..
أمّا اليوم..
فلا حسيب ولا رقيب. ما منحه كل المساحة الممكنة ليفعل ما يريد.
وبطبيعة الحال فهو لم يكن أهلاً للثقة التي نالها من والديَّ زياد..
أمّا زياد فقد كان له شأن آخر..
كان وكيل العمارة مراوغاً مع والديَّ زياد.. اليوم هو حرٌّ من أساليب المراوغة.. التي هو بالطبع ماهر جداً بها.. وقد اكتسبته السنين والتجربة حنكة واسعة..
غير أنه لم يعد يلجأ إلى حنكته مع زياد.. فهو لا يعبأ بكل ما حوله بعد أن غرق أولا بآلامه.. ثم غرق بإدمانه..
وفي يوم تمكن بعد إلحاح من مقابلة زياد، أقنعه بتوقيع توكيل يمنحه حقاً بالتصرف الشامل بالعمارة الوحيدة التي يملكها زياد.. باعتبار أنَّ هناك إجراءات قانونية كثيرة يجب القيام بها، ومعاملات عديدة تخص العمارة كان يقوم ببعضها الدكتور رمزي شخصياً.. وزياد لا يقوم بها الآن..
يتبع...............