الذهب الأسود

د.طارق البكري
اجتمع الأبناء والبنات الأحفاد يوماً في بيت جدهم بعد عودته من رحلة علاج طويلة، وكان الجميع سعداء بعودته.
التف الصغار حول جدهم بكل فرح وسرور.. كانت أصواتهم عالية ومزعجة..
قال لهم الجد بصوته الجميل: "اهدأوا.. اهدأوا.. يا أحفادي.. سأروي لكم حكاية جميلة"..
صاح الجميع بصوت واحد: "نعم.. نعم.. هيا.. هيا يا جدي..
اسمعنا قصصك الحلوة.. منذ زمن لم نسمع حكاياتك.. ".
تنحنح الجد واعتدل في جلسته وقال: "يا أجمل الأطفال.. اشتقت إليكم وإلى ضجيجكم الممتع"..
وتابع الجد حديثه بالقول: "سأحكي لكم عن أيام الماضي عندما كنا أطفالاً نلعب في البراحة الصغيرة التيلة والجنجفة والأورطة.. والحجلة وطاق طاق طاقية، والمقصي والدرباحة والصبة والدوامة والغميضة والعديد من الألعاب البسيطة التي يعرفها أهل الخليج قديماً".
يقاطعه الأحفاد بكل شغف: "واو.. كل هذه الألعاب، يا لكم من محظوظين"..
يضحك الجد ضحكة طويلة.. ثم يكح.. فيأخذ بيده منديلاً أبيض يمسح عرق جبينه..
ثم قال الجد باسماً: "ليس هذا فقط.. كنت أيضاً ألعب كرة القدم مع أولاد الفريج وأعني الحي قديماً..".
تقول بنت صغيرة من البنات المتحلقات حول سرير الجد وهي تمسك بيدها قطعة حلوى وفي اليد الأخرى كانت تصور جدها بجهاز الآيباد: "ما أجمل تلك الأيام يا جدي!".
يعلق الجد على كلام حفيدته الصغيرة قائلاً: "نعم يا بنيتي مريم.. كانت حياتنا بسيطة وجميلة.. لكن لم يكن عندنا مثل ما عندكم اليوم من هذه (الآيباد) العجيبة والألعاب الإلكترونية العديدة، والنوادي الواسعة والمسابح النظيفة.. ولم يكن لدينا مكيفات ولا كهرباء.. ولم يكن هناك من وسائل ترفيه.. وحتى الوسائل البسيطة.. وكنا ننقل الماء على الدواب.. حتى أنعم الله علينا بهدية عظيمة.. يسميها الناس الذهب الأسود...
الجميع بصوت واحد: ذهب وأسود!! عجيب!
يضحك حفيد صغير مشاغب: "هههههه... ماذا تقول يا جدي!!.. لا يوجد شيء اسمه ذهب أسود.. الذهب لونه أصفر.. هل رأيت ذهباً أسود خلال رحلة علاجك؟".
الجميع يضحك..
يتنحنح الجد من جديد.. ويرسم على شفتيه ابتسامة جميلة ويقول: "الذهب الأسود يا مشعل هو ما تعرفونه باسم (النفط) وهو ما يعرف أيضاً باسم (البترول).. فالله سبحانه أنعم علينا بهذه النعمة العظيمة التي كانت فاتحة خير لكل النعم.. فتغيرت أحوالنا.. وانتقلنا من حياة الفقر إلى حياة الغنى.. ولولا النفط يا أحبائي لما تمكنت من السفر للعلاج في الخارج.. ولما كنتم اليوم تسكنون في بيوتكم الكبيرة والجميلة"..
أحد الصغار : "متى اكتشف النفط يا جدي؟".
يقول الجد: "في بدايات القرن الماضي كان الخليج العربي على موعد يا بني يا محمد مع التغيير.. حيث تم اكتشاف النفط وبعد ذلك عمل أجدادكم بجد من أجل استخراجه من باطن الأرض".
وقال أحد الصغار: "وهل اعتمد أجدادنا على تصدير النفط فقط؟".
يجيبه الجد: "لا يا فهد.. لم يكتفون بالاعتماد على عملية تصدير النفط وحدها..
بل قاموا بصناعات عديدة مرتبطة بالنفط.. كما أنشأوا الشركات المحلية والعالمية الكبرى.
بنت صغيرة تقول بصوتها الجميل: "الحمد لله يا جدي.. لقد كان فضل الله علينا عظيماً.. واليوم نحن ندرس في أفضل مدارس.. كما لدينا أفضل المعلمين والمعلمات والجامعات.. وديرتنا أحلى ديرة..".
يجيبها الجد: "صدقت يا لولوة.. يا بنيتي الحلوة.. لقد زرت معظم بلاد الدنيا.. لكن بلادنا العربية تبقى في قلبي وهي الفضلى عندي دائماً.. وأنا أحب وطني مثل كل الناس في العالم لذا أعود إلى وطني كل مرة بشوق وحنين، وحتى عندما كنت مريضاً كنت أتمنى الشفاء والعودة بأسرع وقت..
أحد الأولاد الصغار: "جدي.. جدي.. يبدو أن تلك الفترة كانت كلها أمل وتطلع إلى النجاح؟"..
يقول الجد بعد ان يتنهد تنهيدة عميقة: "نعم يا ولدي سلطان.. كان هناك إصرار على ذلك.. ولم تمض فترة طويلة حتى أصبحت بلادنا في صدارة الدول المنتجة للنفط، كما أن دول الخليج العربي قاموا بنهضة كبيرة غيرت الكثير من الأشياء القديمة، وبعدما كنا نعيش حياة فقيرة بسيطة أصبحنا بفضل الذهب الأسود من أكثر بلاد الدنيا أماناً وسلاماً وبحياة رغيدة"..
يدخل ممرض الجد ويقول : "هيا أطفال.. هيا يا أحباء جدكم الغالي.. لقد قضيتم هنا وقتاً طويلاً.. الجد الآن متعب ويريد أن يرتاح.. ويجب أن أعطيه الدواء"..
يقف الجميع وهم مسرورون بحديث جدهم.. يشكرونه على كلامه الطيب، ثم يشكرون الممرض لعنايته واهتمامه بجدهم.. لكنهم قبل ان يخرجوا طلبوا من جدهم أن يعدهم بأن يكمل لهم حكاية الذهب الأسود، بعد أن يرتاح أو في يوم آخر..
فرح الجد لأن أحفاده الصغار يحبون الماضي.. ويقدرون نعمة الله عليهم..