د. طارق البكري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
د. طارق البكري

موقع أدبي وقصصي ونقدي خاص بالأطفال واليافعين والشباب
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 سر الحقيبة (الجزء الثاني)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 120
تاريخ التسجيل : 28/09/2013

سر الحقيبة (الجزء الثاني) Empty
مُساهمةموضوع: سر الحقيبة (الجزء الثاني)   سر الحقيبة (الجزء الثاني) Emptyالسبت سبتمبر 28, 2013 9:04 pm

د.طارق البكري

دار الرقي
بيروت
أيار 2012
الطبعة الأولى








إهداء

إلى أحبائي.. أطفال المغرب
وجدت لديكم كلَّ الحب.. وأنا أيضاً أحببتكم (بزَّاف بزَّاف)
وإهداؤكم هذه الرواية لا يوازي ترحابكم الكبير بقصصي..
تمنياتي لكم بمزيد ومزيد ومزيد.. من التميز
مع محبتي
طارق





المشهد الأول:

نادل المطعم الصغير - في ذلك الشارع الذي لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً - يدرك أنَّ للتجارب معاني كثيرة وللمحن فوائد كبيرة، فهو من أولئك الذين عجنتهم الحياة بعدما خسروا أحلامهم، ولم يحققوا الكثير منها، فرضي بأن يكون نادلاً بسيطاً جداً يخدم الناس على أن يكون ثرياً يخدمه الآخرون..
هو يؤمن بأن هناك مسافة شاسعة تفصل بين ما نريده نحن وبين ما يريده لنا القدر، أحياناً نحقق كثيراً من الأحلام، وفي أحيان أخرى نفقد الكثير الكثير منها، لكنْ مهما اشتدت المحن حدة، والتجارب قسوة؛ فإنَّ على الإنسان أن يخرج في كل حال أكثر قوة وأمضى حكمة وحنكة.. راضياً بالقضاء والقدر، موقناً بأن العسر يتبعه يسران، وأن الشدة لا تأتي إلا وبعدها فرج.
اليوم تنتابه حالة لم يسبق أنْ راودته من قبل.. يريد نقض الصورة..
قرر دون تفكير وتصميم سابق خلع ثوب العمل وإزالة إزار النادل الذي نادراً ما يخلعه.. ويرتدي حلة أنيقة؛ قميصاً وردياً، ربطة عنق متزاوجة بين الوردي والكحلي في تداخل جميل.. أمَّا البذلة فكحلية اللون.. حافظت على لونها وبريقها رغم قدمها.. فهي لم ترَ وجهَ الشمسِ ولا وجهَ القمرِ منذ نحو من خمس سنين..
بذلة واحدة لا يملك غيرها، اشتراها في مناسبة زواج صديقه الوحيد ليحضر عرسه، ومن يومها لم يعد يرتديها، كما أنه لم يرَ صديقه هذا منذ ليلة العرس..
في البداية كان يبحث له دائماً عن أعذار.. لكن غيبته طالت كثيراً حتى يئس من عودته مرة ثانية..
كان يأتي من حين إلى آخر قبل زواجه إلى المطعم الصغير، يتناول بعض السندويتشات ولا يدفع ثمنها.. كان فقيراً مثل صديقه، لكنه يعمل يوماً ويبقى عاطلاً عن العمل أياماً طويلة، وربما لأسابيع.
فجأة قرر الزواج من إمرأة تكبره بسنوات عدة.
ميزتها الوحيدة أنها كانت تملك بيتاً صغيراً في مكان بعيد، على أطراف البلدة، مع مزرعة فيها بعض الأشجار والحيوانات الداجنة.
هذا الزواج "على علاته" هو برأيه أفضل حالاً من تمضية الحياة متشرداً بائساً..
قرر النادل أن يعتذر عن العمل في المساء.
عاد إلى منزله ليرتاح قليلاً في فترة العصر، ولم يكن يعود إلى المنزل في كثير من الأيام، يفضل البقاء في غرفة جانبية مخصصة لاستراحة العمال في المطعم، لكنه منذ الحادثة بدأ يشعر بأحاسيس مختلفة، وبدأت تتسلل إليه رغبة تمرد على الواقع، هي رغبة لم تكن في الماضي من صفاته.
ارتدى البذلة الكحلية، استعداداً للذهاب إلى بيت صديقه.
فكر أن يزور في طريقه مطعماً فخماً يقع عند أطراف البلدة، قرب بيت صديقه القديم، بيت المرأة المسنة، حيث اختفى هناك ولم يعد يظهر منذ سنين.
يذهب إلى المطعم بواسطة سيارة أجرة صغيرة، يمنح سائقها إكرامية مجزية، يتناول أشهى وجبه، ينفق على هذه الوجبة ربما أجرته الأسبوعية، يشتري باقة ورد ثم يتوجه إلى بيت صديقه.
بعد أن ارتدى البذلة، وسرح شعره، تأمل نفسه طويلاً فلاحظ غزو آثار العمر لوجهه وشعره.
منذ فترة طويلة لم يحدق في المرآة..
منشغل على الدوام في العمل، ولا يكترث كثيراً بمظهره..
التفت بحركة عفوية نحو الكنبة..
تذكر الحقيبة السوداء..
تلك الحقيبة العجيبة، وصاحبها الذي يطلب فنجان قهوة مُرّة وتوست ساخن يومياً..
كان قد نسي أمر هذه الحقيبة بعض الوقت.. لكنها الآن عادت إليه مع صورة الرجل الذي اختفى هو أيضاً ولم يعد يأتي إلى المطعم.. ذلك المطعم الرخيص نسبياً.. مع تلك الأطعمة البسيطة التي يقدمها وتكفي فقط لسد الجوع وملء المعدة الخاوية.. يجلس الزبائن غالباً على طاولات مشتركة دون أن يعرف الواحد الآخر.. وتبقى العيون مشدودة إلى الأطباق.. لا يرفع الزبون رأسه إلا عندما يشرب الماء أو الصودا، أو عندما ينتهي ويطلب الحساب.. ثم يخرج على الفور دون أن يترك للنادل عادة قليلاً من الإكرامية.
كانت البذلة ملتصقة بجسده الممتلىء بعض الشيء..
برزت انتفاخات من ناحية الكتفين وناحية البطن..
من الواضح أنَّ وزنه ازداد كثيراً عن السنوات الآخيرة الماضية، رغم أن البذلة بعد ذلك الزمن الطويل ما زالت تبدو جديدة ولونها لم يبهت.
قرر اليوم أنْ يزور مطعماً فاخراً وأن يأكل بشراهة ثم يدفع إكرامية كبيرة للنادل.. يريد أن يُشعر نفسه بالرضى، وأنْ يشعر نادل المطعم بكرمه.
لم يفعل ذلك من قبل، لكنها اليوم مغامرة جريئة غير مسبوقة..


المشهد الثاني:

خرج من بيته بعد أن ألقى نظرة أخيرة على تسريحة شعره وأناقته.
تأكد من اتساق ربطة العنق مع طولها، تحقق من لمعان حذائه الأسود برأسه المستدير.. ثم سار في طريقه بهدوء بالغ..
كان البرد شديداً، لكنه لم يعبأ بذلك مع أن البذلة التي يرتديها بذلة ربيعية، فهو لم يعتد على الحياة الرغيدة المنعمة، حياته كلها مجموعة صعاب، وبالرغم من أنه لا يذكر شيئاً من تجربته الأخيرة.. فإنه يعتقد بوجود فترة مبهمة من حياته، فترة غير واضحة.
يريد أن يتذكر الماضي، يريد أن يعرف سر الجرح في كتفه. وآثار القيود على يديه وقدميه.
كانت مشاعره تبحث عن سبب ذلك، لكنه لا يجد في ذاكرته أي شيء.. كانت ممسوحة تماماً. مع الأيام اختفت آثار القيود، لم يعد يفكر بها، لكنه من حين إلى آخر يتأمل آثار الجرح، فهو الأثر الوحيد الباقي.. لكنه لا يكشف سراً ولا يمنحه اً واحداً لتذكر السبب.
يعرف أن آثار القيود وآثار الجرح ألمَّت به بعد اختفاء السيد وحيد الذي لم يعد يظهر على الإطلاق.
أسئلة كثيرة تراواد عقله يحاول التملص منها.
- سبب اختفائه ليومين عن العمل؟
- أين ذهبت الحقيبة وكيف؟
- أين السيد وحيد؟
نسي تماماً كل ما قاله له الرجل الحكيم من أنه عندما يصل إلى بيته ويتناول ثمرة النسيان، سوف ينسى موضوع الحقيبة وكل ما حدث معه من تجربة قاسية.
الثمرة المرة أنسته الأحداث التي مر بها داخل الحقيبة، لكنها لم تمسح تماماً ذاكرته الماضية، التي سبقت دخوله الحقيبة.
ربما لم يتناول الثمرة كلها..
أو ربما كان الألم أقوى من الثمرة، وكان عليه أن يأكل ثمرة أكبر منها.. أو على الأقل ثمرتين.
ورغم أنه نسي الأحداث فإنَّه يشعر بوجود قطبة مخفية.. فهو لا يجد تفسيراً لكثير من الأمور.. وخاصة آثار القيود والجرح العميق الذي في كتفه.. ذلك الجرح الذي أصابه بعد سقوطه في ماء النهر وارتطامه بصخرة..
بقيت آثار الجرح واختفت آثار القيود والكدمات..
كان السؤال الأكبر بالنسبة له: أين السيد وحيد؟
لماذا لم يعد ليسأل عن حقيبته، رغم مرور أسابيع على اختفائه، واختفاء الحقيبة دون مبرر واضح؟
ظن واهماً أنَّ الحقيبة سرقت.. أو أنَّ السيد وحيد دخل المنزل من النافذة ليستعيد حقيبته خلال فترة نومه العميق، خاصة أن بيت النادل قريب من الطريق، ويمكن بسهولة تسلق نافذة البيت، وكان النادل يترك النافذة مفتوحة دائماً حتى في فصل الشتاء البارد.. فلا يوجد شيء في المنزل يخشى عليه..
الأثاث قديم جداً ومتهالك، وراتبه بسيط ولا يكفي حتى حاجاته الأساسية الضرورية من إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والماء وبعض الضروريات التي يشتريها بالدين من البقال، لكنه يسدد الدين فور حصوله على أجرته الأسبوعية، فتبقى معه دريهمات قليله، يحتفظ بها في جيبه طوال الوقت حتى وهو نائم حتى ينفقها كلها..
ذاكرة النادل توقفت عند لقائه الأخير مع السيد وحيد، نسي الأشرار والأقزام والأرنب والرجل الحكيم والبومة الطيبة والطائر المنقذ.. لم يبق في ذاكرته شيء من ذلك كله.
عاد يمارس حياته دون أي ذكرى، لكن مشاعره ظلت تبحث عن سبب لكل ذلك، فلا يجد في ذاكرته المرتبطة بهذه الفترة شيئاً يروي غليله، كانت ممسوحة تماماً..
ومع الأيام اختفت آثار القيود.. لم يعد يفكر بها.. لكنه من حين إلى آخر يتأمل آثار الجرح، فهو الأثر الوحيد الباقي، لكنه لا يكشف سراً، ولا يمنحه اً واحداً لتذكر مغامرته القاسية.
أما المطعم الواقع على أطراف البلده فهو في الحقيقة ليس فاخراً.. بل متوسط الحال، لكنه بالمقارنة مع المطعم الذي يعمل فيه مختلف تماماً، فذلك المطعم مكان الضرورة لرواده، يأتون على عجل ويذهبون على عجل، أمَّا أسعاره فهي متهاودة وتناسب الطبقة العاملة والموظفين البسطاء، الأطعمة التي يقدمها ليست غاية، بل وسيلة لكبح الجوع وتعبئة المعدة فقط..
ومع ذلك فإنَّ زبائنه كثر، فهو الوحيد في الشارع وأطباقه متنوعة ورخيصة.
الزبائن يدخلون ويخرجون بلا توقف.. والوقت يمضي في المطعم بوتيرة متسارعة، يأتون ليملأوا جوفهم بأي شيء.. لا يهم.. ثم يخرجون ليتابعوا أعمالهم..
هم مشغولون بحياتهم وليس لديهم الكثير من الوقت ليضيعونه هباء منثوراً.
مطعمه يشبه خلية نحل..
"طقطقة" الصحون والملاعق تملأ المكان ضجة ونشاطاً.



المشهد الثالث:

المطعم كان هادئاً للغاية، زبائن متناثرون داخل جنباته الواسعة، يختبئون خلف أضواء خافته، همساتهم لا تريد بعثرة سكون المكان.
ما أجمل النسيم العليل بعد عاصفة، وما أزكى نسائم العطر التي تحمل أحلام شاب قادته قدماه إلى هذا المكان البديع..
موسيقى وغناء..
هذا لحن يعرفه..
هذا صوت.. "يا سلام.. ما أجمله" ..
أصالة تغني باللهجة المغربية..
"أذكر هذه الأغنية جيداً.. لطالما وضعتها في المطعم.. كلماتها تعني لي الكثير"..
"ما أنا إلا بشــر عندي قلب ونظر.. وأنت كلك خطر".
كان يسمع هذه الكلمات ثم يرددها ويتوقف عند كل كلمة، لم يسمعها منذ فترة.. يتأمل.. ينظر إلى سقف المطعم.. يجول بعينيه دون تمعن في شيء..
تلك فرصة سانحة لكي يغيب عن عالمه للحظات.. فرصة نادرة؛ يحجب الإنسان فيها فكره عن الواقع، مبتعداً عن عاصفة الحياة، عن جراحها الساخنة التي تلقى على الطريق تحت شمس لاهبة أو في وجه قمر وسنان.
يفتش عن شعاع شوق ينجيه من مغالبة النفس المرهقة من التفكير، سعياً وراء حقيقة مبهمة وغامضة..
يعود ليقول بلذة فائقة: "ما أنا إلا بشر.. عندي قلب ونظر" .
يتذوق اللحن.. يحلق في الكلمات.. ويذوب مع صوت أصالة..
لاحظ نادل المطعم هذا الاندماج الكلي والتماهي مع الأغنية.. لم يكلمه ولم يقترب منه.. تركه يعيش في عالم من الأحلام المترامي الضفاف، حتى انتهت الأغنية واستفاق من جديد..
يوجد فرق كبير بين عالم الخيال وعالم الواقع، بين عالم الحقيقة والأحلام.. غير أن للخيال سراً يكسر مغاليق الفضاءات الحالمة، هي أشياء تولد بلا قرار، تنبض دون اختيار، وتموت دون احتضار..
عاد النادل - الذي نسي اسمه تماماً - إلى واقعه، لم يناده أحد باسمه منذ فترة طويله.. حتى صديقه الوحيد الذي تزوج امرأة كبيرة بالسن، اختفى..
رواد المقهى ينادونه بـ: يا أيها النادل..
طلب منهم مراراً وتكراراً أن ينادونه باسمه لكنهم لم يبالوا يوماً بطلبه.. همهم الحصول على طعام وشراب، وملء معداتهم الخاوية، ثم العودة إلى أعمالهم بأسرع وقت ممكن..
"آه.. ما أصعبَ تلك الأيام.. منذ أنْ بدأتُ العمل والعمل لا يتوقف، ساعاتُ الراحة قليلة.. اليوم أريد أن أتمرد على نفسي، ولو ليوم واحد".
لم يكن النادل يدرك حقيقة التجربة التي مر بها في رحلة البحث عن سر الحقيبة.. لكن وقعها كان عميقاً في نفسه..
يدرك أن شيئاً ما قد حدث، لكنه شيء مجهول..
كم هي الشدة أمضى حدة عندما تكون الغرابة من داخل النفس، والنفس متوثبة نحو الحقيقة، متحمسة لكشفها، لكن ستاراً من الظلمة الدامسة يشكل حاجباً لكل شيء.. حتى مجرد تخيّل الحقيقة ليس ممكناً.. في عالم مبهم.
الموسيقى تصدح في المكان..
الضوء الخافت بألوانه المتعددة يثير في نفسه حَسَرات على زمان انقضى دون أن يحقق فيه ما كان يرجوه من أحلام..
على الحائط المقابل له مباشرة صورة للبلدة القديمة، صورة يذكر تفاصيلها، المنازل متراكمة فوق بعضها على التلال، وكأنها مبنية مثل هرم، وعلى الحائط الآخر البعيد مجموعة من الصور لا تتضح له معالمها..
الضوء الخافت والإلوان المتأرجحة المتراقصة تجعل الرؤية مقتصرة على الأمكنة القريبة، أما البعيدة فتحفل بأسرار مغرية، وألغاز مبهمة..
توجه نادل المطعم إليه من جديد..

كان يرتدي حلة أنيقة وجديدة، ولا تبدو عليها آثار العمل.
تذكر الثياب التي يرتديها في مطعمه البعيد، واختلاطها بالعرق والهواء الملوث بدخان السجائر الذي يملأ المكان..
بأدب جمِّ، وبثقة بالغة الكبرياء قدَّم له النادل قائمة الطعام مرحباً:
"أهلاً بك يا سيدي.. يبدو أنك أوَّل مرة تأتي إلى مطعمنا.. يوجد لدينا الكثير من الوجبات الشهية؛ مشويات على أنواعها، أسماك من كل الأصناف، طازجة من البحر إلى مائدتك مباشرة، كما لدينا أفضل أنواع السلطات والمرق، لك أن تختار وعلينا أن نعد لك أشهى الأطباق"....
صوت فيه رقة..
ينساب مثل نسيم عذب في يوم ربيع..
لكنه يتكلم كآلة تسجيل، كلمات يحفظها ويكررها مع كل زبون.. يطلقها دون مشاعر..
"لا شك أنه تدرَّب كثيراً على قول تلك الكلمات.. في رقة وسلاسة.. لكنها تظل كلمات فارغة من إحساسها".
قال ذلك في نفسه، لم يبدها له - بالتأكيد - فهو يحترم عمله الذي يؤديه برقة.. واللطف الذي يبديه بحرفية عالية.. نظر إليه مع ابتسامة عفوية تعبر عن تقدير كامل لأسلوبه، ثم تأمَّل قائمة الطعام.
ألقى نظرة ماسحة على سعر الوجبات ..
كان يأمل أن يأكل ثم يأكل ثم يأكل - بغير حساب - حتى تمتلىء معدته الخاوية.. لكن من الواضح أنَّ المبلغ الذي في جيبه لا يكفي نصف وجبه.. ولا حتى ربع دجاجة مشوية.. فضلاً عن الإكرامية "الكبيرة" التي كان يريد أن يمنحها لنادل المطعم.
مضت هنيهات ونادل المطعم يقف أمام طاولته ينتظر طلبه..
تذكر ما كان يطلبه السيد وحيد.. بالتأكيد لن يكون الطلب بتكلفة المطعم البسيط حيث يعمل، لكنَّه سيكون حتماً بقيمة أرخص من أرخص وجبة من هذه الوجبات الباهظة الثمن.
تأمل لائحة الطعام قليلاً.. ثم قال بهدوء وثقة مصطنعة: "فنجان قهوة وقطعة من التوست من فضلك".
لم ينبس نادل المطعم بكلمة واحدة..
لم يظهر أي تعبير يغير قسمات وجهه.. أو يشير إلى مشاعره الساخرة..
أخذ منه لائحة الطعام، ثم اختفى في عتمة المطعم..
ما أصعب المواقف التي يمر بها الإنسان.. حتى الآمال البسيطة لا يمكن تحقيقها بسهولة، مجرد وجبة شهية في مطعم فاخر - إلى حد ما - لا يستطيع الحصول عليها..
كان يظن أنَّ أجرته الأسبوعية كافية..
لكن.. حتى فنجان القهوة أغلى بنحو خمسة أضعاف من المطعم الذي يعمل فيه..
فهل مجرد بعض الأضواء الخافته الملونة، والشموع المعطرة، والكراسي المريحة، مع ورود تزين المدخل.. كافية لرفع سعر الوجبات؟!
الناس هنا يسهرون وينفقون بلا حساب..
تذكر محمود درويش في كلماته:
"أيَّها الساهرون أَلم تتعبوا
من مُرَاقبةِ الضوءِ في ملحنا
ومن وَهَج الوَرْدِ في جُرْحنا؟".


المشهد الرابع:

أعوام كثيرة عبرت أمامه وهو يتنقل بين الطاولات والزبائن.
لم يفكر لحظة أن يبدل عمله، ولا أن ينتقل إلى مطعم آخر، كان راضياً قانعاً بما هو فيه، لم تكن الأحلام عريضة ولا الآمال كبيرة.. وتكفيه في المساء وسادة يعشقها.
حلم الزواج كان مؤجلاً.. أو - ربما - مستحيلاً..
فمن تلك التي ترضى بالزواج منه؟!.. وأجرته الأسبوعية لا تكفي حتى وجبة عشاء بسيطة في مطعم مثل هذا..
ثوان معدودات وأحضر له نادل المطعم طلبه، ولم يبتسم له هذه المرة..
نظر إلى وجهه نظرة متفحصة سريعة، تأمل سترته الكحلية.
وضع الطلب على الطاولة وألقى الفاتورة في صحن صغير بغير مبالاة..
كان يبدو واثقاً بأن الرجل لن يطلب غير هذا الطلب البسيط، موحياً له بأن عليه أن يشرب فنجان القهوة ويتناول قطعة التوست بأسرع وقت ممكن، ثم يغادر على الفور.
لم يأبه بكل هذا.. لم يرد أن يعكر صفو هذه اللحظات النادرة بموقف مزعج..
عاد يتأمل جوانب المطعم بأضوائه الخافتة.
ملامح الوجوه ليست واضحة بينة، على نقيض المطعم الذي يعمل فيه..
هناك الزبائن يجلسون متقاربين حتى التلاحم والانصهار، لكن عيونهم تبقى مركزة على الأطباق.. يأكلون بسرعة ثم يخرجون لمتابعة أعمالهم، لكن الزبائن هنا يستمتعون بوقتهم، يتحدثون بأصوات هامسة.. يتبادلون الابتسامات على ضوء شموع عطرة.. على كل طاولة شمعة، وهج الشموع ثابت لا يهتز، بعض الطاولات أطفأت شمعاتها ليكون حوارها أكثر خصوصية..
طلب من نادل المطعم أن يحضر له شمعة إضافية بعطر مختلف، لكي يمتزج وهج الشمعتين على المائدة الفارغة إلا من فنجان قهوة وقطعة توست، فتتماهى رائحتهما داخل أنفه، آملاً بأحلام لم يرها من قبل..
لكن النادل لم يعطه فرصة التمتع بهذه اللحظات.. كان يقطع عليه أوهامه جيئة وذهاباً حتى ينهي ق___ه ويغادر بسلام..
أمَّا هو فلم يكن مستعجلاً على الإطلاق.. لا يوجد هناك سبب واحد يفرض عليه ضرورة مغادرة المطعم.
لم يرتشف رشفة واحدة..
ترك الفنجان أمامه ممتلئاً تفوح منه رائحة القهوة التي تسلك طريقها إلى رأسه مباشرة، كما أنه وضع قطعة التوست وسط الطاولة لتبدو ظاهرة للعيان..
"لا همَّ".
عندما يريد المغادرة سوف يشرب القهوة باردة، ويلتهم قطعة التوست، ثم يغادر بهدوء بعد أن يشبع نفسه برفاهية المكان..
ما أجمل الثواني الممتعة المرهفة التي تغيب فيها مساحات العقل عن عصف السنين وشجون الحياة..
ينشرح الصدر بعفة القلب ونقاء النفس، وتحلق الروح بسمو المشاعر ونبلها..
المكان والزمان منفصلان ومتحدان.. الأول يملأ فضاء الشعر بخيلاء الواثق بالاستمرار.. والثاني رحال، لا يعرف ثباتاً ولا رجوعاً ولا بقاء..
"كل حال عنده يزول"..
كلمة سمعها يوماً من الحاج فيصل، رجل حكيم كان يأتي إلى المطعم من حين لآخر..
لم يكن الحاج فيصل رجلاً عادياً مثل غيره من رواد المطعم.. كان متقدماً بالسن، ينشر هيبته بلحيته البيضاء الخفيفة، ومشيته الثابتة الهادئة، ونظراته الحيية..
جاء بضع مرات ثم اختفى.
قال للنادل يوماً وهو يعطيه ثمن الطعام قبل أن يغادر المطعم:
"صدقني يا صديقي.. كل حال يزول".
ولم يظهر بعد ذلك أبداً..
غاب عن الذاكرة كما تغيب أشياء وأشياء، وقد قيل في الأمثال: "بعيد عن العين بعيد عن القلب".
حتى زهرة العشق في قلوب العاشقين تذوي مع الأيام.. ولطالما جال المحبون في وديان العشق حتى تناءت صور فما لها من كيان..


المشهد الخامس:

جلسته كانت حائرة حالمة، يختلس من فضائها بعض الذكريات، فيما تفرض المشاهد المتتابعة أمامه الدهشة على قاموسه المنتمي إلى مطعمه القديم..
الأطباق الطائرة تنتقل على صوان فضية كبيرة، توضع بعناية فائقة على طاولات خشبية محلَّاة بقطع من الصدف الأبيض اللمَّاع، مغطاة في أعلاها بقماش زهري شفاف من لون سقف المطعم، فتزيد المكان رقَّة وشجوناً..
كلَّ ما في المكان والزمان المتحدين في ذاته، يصنع في نفسه أثراً يشبه الجرح الذي في كتفه..
ذلك الجرح المثير المبهم، الذي فشل في اكتشاف كنهه كما فشل في اكتشاف (سرِّ الحقيبة)..
بعد تلك الحادثة مباشرة.. وبعد أنْ استفاق من نومه الطويل، ذهب إلى الطبيب ليعالج أثر الجرح الذي لم يكن قد التأم بعد، سأله الطبيب عن سبب الجرح فلم يجد جواباً.
قال له: "ربما سقطت من سريري ووقعت على شيء ما سبَّبَ هذا الجرح العميق".
لم يقتنع الطبيب بهذا الجواب.. قال: "داخل الجرح رمال يجب إخراجها؟
صاح باستغراب: "رمال؟! من أين تأتي الرمال؟ أنا كنت بالمنزل نائماً!".
تابع الطيب كلامه: "الجرح يتطلب أولاً تنظيفه من الرمال التي بداخله، ثم سأقوم بتعقيمه وخياطته.. ستشعر ببعض الألم".
تفحص الطبيب حبات الرمل: "هذا رمل غريب حقاً لا أدري مصدره.. على أي حال.. حمداً لله على سلامتك، أيام ويبرأ الجرح، لكن عليك الآن أن تحافظ على تناول العلاج بشكل كامل وبأوقاته المحددة".
تذكر ذلك ولم يشغل نفسه..
الأطباء قد يعظمون الأمر رغم بساطته..
"الجرح كان بسيطاً وذهب إلى غير رجعة، لكنَّه ترك أثراً واضحاً.. شفيتُ من ألم الجسد لكنَّ آلام الروح لا تشفَى بسهولة".
مَا أصعب تلك الآلام التي تصيب الإنسان في صميم قلبه ولا يجد لها شفاء.. والوجع الحقيقي لا ينفع فيه طبيب ولا دواء.
في هذه اللحظة سمع صوتاً ندياً هامساً على طاولة مجاورة..
لم يلحظ قبل هنيهة أنَّ أحداً "يختبئ" في العتمة على مسافة قريبة منه.. لا تبعد سوى خطوتين أو ثلاث على الأكثر..
كانا يتهامسان بخفة وهيام.. ورقة دلال..
الحماسة بلغت أوجها بالشاب الذي لا يظهر غير خياله..


المشهد السادس:

هتف الشاب بهمسات كانت كافية لتصل نبضاتها إلى مسامعه:
"لأنَّ كلام القواميس مات،
لأنَّ كلام المكاتيب مات،
لأنَّ كلام الروايات مات؛
أريد اكتشاف طريقة عشقٍ
أحبك فيها بلا كلمات".

عندما سمع ذلك تنهد من أعماق قلبه..
تذكر أياماً من الماضي، يوم كان شعر نزار يتردد على لسانه.. أمَّا اليوم فلم يعد يفارق فناجين القهوة وصحون الطعام والملاعق والاشواك وعتبة المطعم، كما أنه لم يعد قادراً على الانسلاخ من "عباءة" النادل التي باتت تلاصق جلده مثل وشم.
وكانت خاتمة شعر نزار:
"كل الأساطير ماتت..
بموتك..
وانتحرت شهرزاد".
يقلِّب بصره مرة أخرى، ويتمتم: "ما أنا إلا بشر"، ويعود ليطلق تنهيدة أخرى عميقة، محاولاً التركيز في فنجان القهوة الذي أصبح بارداً مثل برودة المطعم..
من جديد يقترب نادل المطعم من الطاولة التي بدا منظرها جميلاً رائعاً، مع الشمعتين اللتين كانت تذوبان حسناً وبهاء، لكنه هذه المرة جاء من الخلف، يريد أن ينبهه إلى أن القهوة بردت، بل أصبحت ببرودة الثلج، وأنَّه تجاوز زمن القهوة.. وكأن للقهوة زمناً يجب إلا يتجاوزه..
"هل سيدي لم تعجبه ق___نا.. هل يرغب بشيء آخر؟".
جملة قصيرة قالها بهدوء.. لكن بكثير من اللؤم..
أشار بيده إلى بقايا الشمعة الأولى أمامه، تذوب نهايتها ببطء..
"هل تريد يا سيدي أن أشعل لك شمعة جديدة؟ هذا لو كنت طبعاً ترغب بتناول وجبة العشاء".
"هو يطردني.. يا له من نادل وقح.. ألا يدري أننا زملاء في المهنة، صحيح أنني أعمل في مطعم بسيط وليس من الوزن الثقيل كمطعمه؛ لكننا في المهنة سواء بسواء" .
قال ذلك في نفسه بعد أن ألقى عليه نظرة عتاب.
ارتشف القهوة دفعة واحدة، حمل جسده مودعاً المكان، تاركاً قطعة التوست على الطاولة دون أن تمسها يده.
أخرج من جيبه دريهمات.. أحصاها بدقة.. ثم وضعها دون اكتراث على الطاولة رغم وجود "طبق فارغ" مخصص لها. ومضى في طريقه دون أن يترك للنادل قرشاً واحداً إضافياً..
عندما وصل إلى مدخل المطعم؛ التفت نحو النادل، رمقه بازدراء نظرة نافذة..
هزَّ كتفيه لا مبالياً..
قلب شفتيه ساخراً..
ثم اختفى في ظلمة المكان.
في بعض الأحيان تتلاشى المعاني وتذوب كما يذوب السكر في كأس ماء عذب.. حيث يمتص الماء حبيبات السكر.. يلتحمان ويصبحان شيئاً جديداً، ما هو بسكر وما هو بماء، لو شربه سليم البدن استساغه، ولو شربه مريض السكر اعتلَّ أكثر..


++++++++++++++++++يتبع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://bakri.mam9.com
Admin
Admin



المساهمات : 120
تاريخ التسجيل : 28/09/2013

سر الحقيبة (الجزء الثاني) Empty
مُساهمةموضوع: رد: سر الحقيبة (الجزء الثاني)   سر الحقيبة (الجزء الثاني) Emptyالسبت سبتمبر 28, 2013 9:05 pm

تتمة الرواية


المشهد السابع:

يقترب النادل من بيت صديقه القديم.. مرت خمس سنوات كاملة لم يتلقيا فيها..
عرج في طريقه على محل زهور..
"باقة صغيرة.. قليل من الورد وكثير من العيدان الخضر المورقة"..
شارط البائع على السعر.. البائع لم يعجبه المبلغ في البداية، ورضي في النهاية على مضض..
حمل باقة الورد متفاخراً بها..
هي في الحقيقة باقة عيدان خضر مع خمس ورود فقط..
توجه مباشرة إلى بيت صديقه..
"ترى ماذا سيقول لي صديقي بعد كل تلك السنين؟..
هل ما يزال يذكرني؟!
بالتأكيد يذكرني..
لا يمكن أن ينساني.. كنتُ شاهداً على زواجه، حتى أني دفعت أجرة المأذون، زواجه لم يكلفه شيئاً..
كانت جيوبه فارغة على الدوام.. لم يكن يكره العمل، على العكس.. كان يحب أن يعمل بجهد، لكن جسده لم يكن قوياً، والعمل البدني يحتاج إلى قوة..
لم تكن معه شهادات عالية ليحصل على وظيفة مناسبة، كان يعمل يوماً ويتوقف عن العمل أياماً".
بيت صديقه أصبح أمامه مباشرة..
أضواء خافتة تنبعث من داخله، وضوء أصفر فوق مدخل البيت..
المكان هادئ تماماً.. توجد بعض النباتات مزروعة في حديقة البيت، وأشجار مثمرة..
صورة الخيال قريبة جداً من الواقع، فما أجمل الواقع عندما يقترب من الخيال، وما أجمل الحقيقة عندما تصنعها الأحلام.
وقف أمام الباب متحفزاً.. أخذ نفساً عميقاً:
"ترى هل سيعرفني؟
مضى وقت طويل..
من سيفتح لي الباب.. هو أم زوجته؟
أخشى أن تكون زيارتي مزعجة له أو لها، ترى ماذا سيكون موقفه وموقفها؟".
كل هذه التساؤلات ليس لها ضرورة الآن.. لو خطرت على باله قبل مجيئه ربما لم يصل إلى هنا..
هو الآن عند الباب، لا يمكن أن يعود أدراجه.. ضغطة واحدة على زر الجرس ويفتح
الباب. هذا الباب قديم جداً..
يبدو أن المنزل ورثته زوجته عن والدها، فقد أخبره يوم زواجه أنَّ زوجته كانت وحيدة أبويها، ولم يكن لديها أشقاء. تزوجت رجلاً ثرياً في سن صغيرة، وتوفي زوجها بعد سنوات قليلة من زواجها منه، رفضت الزواج بعد ذلك حتى بلغت سناً متقدمة وأصابها المرض، فأرادت أن يكون لها زوج يعينها على مرضها..
فضل صديقه أن يكون ممرضاً برتبة زوج على أن يظل متشرداً جائعاً بائساً..
لم يكن انتهازياً يوماً، ولم يستغل حاجات الناس لقضاء مصالحه، كان يحب مساعدة الآخرين، ووجد في تلك المرأة فرصة ليساعدها ويساعد نفسه، بعد سنوات طويلة من الضيق والفقر والعوز.
وبحركة تلقائية، وفيما هو يفكر ويستعيد الذكريات؛ ضغط على جرس الباب.. كان الصوت شديداً.. تراجع إلى الخلف فتعثر من درجة مرتفعة قليلاً عن حديقة المنزل.
رفع يديه إلى الأعلى.. تراخت قبضته.. فطارت باقة الورد متأرجحة في الهواء، قذفها عالياً وهو يحاول التماسك، بعد أن كاد يسقط لولا أن احتضنه جذع شجرة قريبة من مدخل البيت بلطف ولين.
لحظات قليلة مرت كساعات..
سمع صوتاً من وراء الباب: "من؟".
قال له: "افتح الباب.. أنا صديق قديم؟".
أجاب: "ليس عندي أصدقاء.. لو كنت صاحب حاجة قل حاجتك أو امض في طريقك".
فقال النادل بإصرار وبصوت شديد: "افتح الباب، لم أظن أنك تغلق بابك في وجه ضيوفك.. ألا تذكر المطعم الصغير الذي كنت تأكل فيه قبل زواجك؟".
في هذه اللحظة.. ساد المكان هنيهات من صمت..
تحرك مزلاج الباب..
خرج صوت من وراء الباب قبل أن يظهر صاحبه:
"لا يمكن.. مستحيل، لا أصدق نفسي.. عبدالله.. عبدالله بشحمه ولحمه.. ما هذه المفاجأة؟"...
فتح الرجل يديه ليعانق صديقه بعد فراق طويل.. ثم صاح متعجباً: "عبدالله.. هذا أنت بالفعل.. ما أجملك يا صديقي القديم".
ضحك النادل من أعماق أعماق قلبه، وقال: "نعم.. أنا عبدالله.. بشحمه ولحمه".
ثم ذابَ الرجلان في عناق حميم وبكاء صعدت دموعه من الأحشاء.


المشهد الثامن:

قال النادل: "خشيت أن تكون قد نسيتني، أو أن تزعجك زيارتي؟".
أجابه مبتسماً: "والله لقد أفرحت قلبي وأبكيتني دموع الفرح، مع أنني منذ زمن بعيد لم أضحك يوماً بعد بكاء".
قال النادل: "تغيرت كثيراً يا نور الدين".
أجاب: "نعم يا صديقي، لقد كنتُ آكل بشراهة طوال الفترة الماضية، أردت أنْ أعوّض سنوات الفقر والجوع.. وفي السنة الأخيرة فقدت زوجتي التي ماتت بعد مرض طويل، فحزنت عليها كثيراً، ولم أعد أخرج من المنزل إلا لضرورة قصوى..
قضيت شهوراً طويلة أحبس نفسي في هذا المكان، كانت زوجة رائعة، طيبة القلب، لم تبخل عليَّ بحاجة يوماً، أحبتني بصدق، وأحببتها حباً مثله..
في أول زواجنا كانت المصلحة متبادلة، هي تريد ممرضاً وأنا أريد بيتاً يأويني وطعاماً أتلذذ به، لكني أحببتها بكل مشاعري، عوضت علي كل سنوات الألم والبؤس، إلى أن قدر الله وفاتها.. فحزنت عليها حزناً شديداً".
أدرك عبدالله إحساس صديقه، فهو يعرف تماماً أنه رجل طيب القلب، فجلس يواسيه، ويستعيد معه الأيام الخالية.
مضى الوقت سريعاً..
قضيا الليل يتحدثان ويتناولان الطعام والفاكهة حتى تناهى إلى سمعهما أذان الفجر..
فتوضآ وخرجا للصلاة..
بعد الصلاة أراد عبدالله أن يستأذن صاحبه بالعودة إلى منزله، لكن نور الدين أبى ذلك قائلاً له: "لن أتركك بعد اليوم ستبقى معي هنا في هذا المنزل الكبير".
حاول عبدالله أن يعتذر لضرورة العمل، لكن نور الدين كان مصراً، وقال له: "أما زلت تعمل في ذلك المطعم نفسه؟".
أجاب: "نعم.. وأين تريدني أن أذهب؟".
قال: "هل تدري أني كنت أفكر بك في الفترة الماضية لأمر مهم..
الحمد لله أنه بعثك لي.. فأنا كما ترى أصبحت سميناً ولم أعد أستطيع التنقل
بسهولة.. دعنا الآن نذهب لنستريح وننام قليلاً.. فأنا أشعر بإرهاق شديد، لقد مضى وقت طويل ونحن نتحدث".



المشهد التاسع:

لم يطل كثيراً نوم الصديقين.. ساعات قليلة واستعاد كل منهما نشاطه.. وعندما توجها إلى غرفة الطعام كان الفطور جاهزاً، ففي بيت السيد نور الدين طباخ ماهر.
بادر نور الدين صديقه قائلاً: "ترى ما هو السبب الذي جعلك تأتي إلينا بعد فراقنا الطويل؟".
أجابه صديقه عبدالله: "نحن في الحقيقة تأخرنا كثيراً عن هذا اللقاء.. لا تنكر أنك السبب في ذلك.. فنحن كنا نلتقي في المطعم حيث أعمل، لكنك اختفيت بعد زواجك!".
تنهد نور الدين تنهيدة عميقة، هز رأسه، وحرك حاجبيه، ثم قال:
"لو تدري يا عبدالله كم هي الصعاب التي مررت بها لعذرتني؛ فبعد زواجنا بقليل اشتد مرض زوجتي، وقد أحببتها حباً شديداً، فلم أستطع مفارقتها لحظة واحدة..
كنت لها الزوج والممرض والابن والأب والأخ والحبيب..
عشت السنوات الماضية أتألم معها، وموتها كان بالنسبة لي خسارة جسيمة..
لم يعد كل ما تركت لي من مال له قيمة.. فارقت الابتسامة وجهي حتى رأيتك.. فقد جئت إلي مداوياً، ولطالما كنتَ في مخليتي..
الظروف كانت أقوى مني.. وأنا أيضاً أعذرك لأنك لم تسأل عني طوال المدة الماضية، فتقبل عذري وسامحني بعد أن كان حالي كحال عمر بن أبي ربيعة في قوله:
مَنْ تَعَزَّى عَمّنْ يُحِبُّ فإنّي /// ليسَ لي ما حييتُ عنه عزاء..".
تنحنح النادل..
أسند رأسه إلى أعلى الكرسي الذي يجلس عليه..
أرخى قدميه إلى الأمام قليلاً، كانت طاولة الطعام أمامه ممتدة وفيها أنواع من الأطعمة من ألذ الأطباق.. ثم قال: "أراك ما زلت محباً للشعر وللكلام الساحر.. دعنا الآن من المعاتبة والذكريات الحزينة.. فلكل منا ظروفه، فأنا جئت إليك وعندي حاجة".
عقد نور الدين حاجبيه، وقال: "الله.. الله يا زمن! وأنا من كان يأتيك لحاجاته تأتيني اليوم لحاجة تريدها! كلي آذن صاغية".
سدد نظرة مباشرة في عيني صديقه مترقباً ما الذي سيقوله..
لم يتأخر عبدالله بالكلام، ولم يمهد لذلك، ودخل فوراً في موضوعه؛ روى لصديقه قصة السيد وحيد، والحقيبة التي اختفت بشكل عجيب، وحدثه عما وجده في جسده من آثار، ما رآه من أثر قيود على يديه وجرح عميق في كتفه، فضلاً عن الرمال الغريبة التي عثر عليها الطبيب داخل الجرح.
طلب السيد نورالدين من صديقه أن يرى آثار الجرح..
حسر عبدالله قليلاً من ثوبه عن كتفه، فظهرت آثار الجرح واضحة.
كان الجرح غائراً، يدل على إصابة كبيرة.
قال نور الدين: "تبدو هذه وقعة من مكان مرتفع على شيء حاد، أو ضربة من سكين.. لا يمكن أن تكون وقعة من فوق سرير"..
وتابع ضاحكاً: "إلا إذا كنت تصعد إلى سريرك بالمصعد".
حرَّك عبدالله يده ليعيد الثوب كما كان..
صاح نور الدين: "لحظة واحدة.. دعني أرى الجرح مرة ثانية".
تأمل نور الدين الجرح مرة أخرى..
حك رأسه بطرف أصبعه الصغير، قال: "تحدثت عن رمال غريبة وجدها الطبيب في الجرح.. ألم تسأله عن نوع هذه الرمال؟.
"سألته.. لكنه كما أخبرني لا يعرف تماماً، هو طبيب وليس عالم طبقات الأرض.. لم يكن الأمر مهماً إلى هذا الحد.. لكنَّها بالفعل كانت رمالاً غريبة اللون، تختلف عن شكل ولون الرمال العادية التي نعرفها، والأمر الأكثر غرابة؛ هو من أين أتت تلك الرمال إلى الجرح وأنا نائم في سريري؟".
"صحيح" .
فكر نور الدين عميقاً.. ثم قال ضاحكاً: "لعلك تمشي وأنت نائم؟" .
وأضاف بنبرة جدية حازمة وكأنه محقق في الشرطة: "ألم يحدث ذلك معك من قبل؟".
"أبداً.. على الإطلاق.. طوال عمري أغرق في نوم عميق بعد أعود من عملي مرهقاً.. لم يسبق أن حدث ذلك معي في يوم من الأيام".
قالها عبدالله بصوت مرتعش، وكأنه متهم مضطرب، يريد أن ينفي عن نفسه تهمة شنيعة.
نور الدين كان شديد الاستغراب مما حدث؛ أولاً قصة السيد وحيد، ثم الحقيبة، ثم اختفاء الحقيبة، وآثار القيود على اليدين، والجرح العميق في الكتف.. "لا شك أن في المسألة لغزاً كبيراً.. وأنا أحب فك الألغاز".
راح يضحك ويقهقه بصوت مرتفع..
"هذه أول مرة أضحك فيها من قلبي منذ زمن بعيد.. أنت تستحق جائزة".


المشهد العاشر:

النادل تناول بعد رحلته المثيرة ثمرة النسيان المرة كما أوصاه الرجل الحكيم، لكن ربما سقطت منه بعض أجزائها لقيامه بالتهامها بشكل سريع.. لذلك فهو يشعر بأن أمراً ما قد حدث عليه أن لا يتذكره.. فقد كان همه الخلاص من عالم الأفكار المكشوفة، من تجربة مرعبة لم تكن في حسبانه، ولم تكن متوقعة.
أمَّا اليوم فهو يريد البحث من جديد..
يريد أن يعرف سبب الجرح..
يريد أن يعرف كيف اختفت الحقيبة..
ولماذا لم يعد السيد وحيد ليسأل عن حقيبته؟.
شارك صديقه نور الدين في كل هذه التساؤلات.. يريد منه أن يقدم له مساعدة ليكشف سر الحقيبة والحلقة المفقودة..
وبعد أن أفرغ عبدالله كل ما يريد قوله أمام صديقه، قال إنه يريد الآن الذهاب إلى عمله.. ويرتدي إزار النادل من جديد.. وعندما همَّ باستئذان صديقه للمغادرة.. قال نور الدين:
"انتظر يا صديقي.. ألم أقل لك أمس إنني كنت أفكر بك في الفترة الماضية؟".
"صحيح.. نسيت أن أسألك عن سبب هذا التفكير بي.. وبماذا كنت تفكر؟".
ابتسم نور الدين وقال: "أنت ترى حجم هذا البيت الكبير والحديقة الواسعة أمام البيت ومن خلفه؟".
"نعم.. وما علاقة ذلك بي؟".
"اصبر قليلاً.. ما زلت كما كنت مستعجلاً على الدوام..
فكرت طويلاً بأن أحول هذا المنزل إلى فندق صغير أو مطعم تقوم أنت بإدارته.. فلك خبرة طويلة في ذلك؟".
استغرب النادل هذه الفكرة، لكنها أثارت اهتمامه..
"البيت يحتاج إلى ترميم وتعديل ليصبح مناسباً ليكون فندقاً أو مطعماً.. والحديقة يجب إزالة بعض أشجارها وتفريغ جزء منها وتسوية الأرض لتصبح مواقف للسيارات.. لكن المشكلة أن المكان بعيد عن أماكن السكن والعمل، ولن يصل الزبائن إلى هنا بسهولة.. كما أن تجهيز المكان سيكلفك الكثير من المال.."
قال نور الدين: "رحم الله زوجتي.. كانت سيدة طيبة، تركت كل ممتلكاتها باسمي.. صدقني يا صديقي لم أكن أعرف أنها تملك كل هذا المال، كما أن لديها محالاً في السوق تأتيني كل شهر إيراداتها، ولذلك تراني أجلس في المنزل لا أخرج منه إلا نادراً.. آكل كثيراً وأنام طويلاً، ولا أبذل أي مجهود".
ثم قال ضاحكا: "ومع ذلك.. سوف تعينني وتعلمني لكي أكون نادلاً محترماً، فالرجل المحترم يجب أن يعمل ويعمل ويعمل، لأن الكسل عدو للإنسان".
لم يكن وقع الأمر على عبدالله أمراً عابراً، لم يأتِ صديقه من أجل عمل جديد ولا طمعاً بأمواله، ولم يكن يدرك أنه يملك كل هذا المال الذي يتحدث عنه.. ومع ذلك لم يكن متحمساً لأن الأمر برمته لا يعنيه.
قال له: "عندي فكرة أخرى لو قبلت بها سيكون الأمر أفضل برأيي، كما أن بيتك سيظل كما هو، لتحتفظ بذكرياتك.. كما أنك تستطيع أن تحول المنزل - لاحقاً- إلى شيء نافع للناس.. كأن تجعله مدرسة مثلاً، أو داراً للأيتام، أو مسكناً للفقراء.. ويكون المشروع - مهما كان شكله - باسم زوجتك".
هنا سقطت عبرات لامعات من عيني نور الدين متذكراً زوجته..
أحس أنه سيخون ذكرى زوجته بتحويل بيتها إلى مطعم:
"صحيح ما قلته يا عبدالله.. نعم.. سأجعل من البيت مدرسة، وستكون باسم زوجتي وفاء لها، وسأكتب اسمها بالخط العريض (مدرسة شروق)، غير أن ذلك يحتاج لإعداد وتحضير ووقت طويل، وأنا لا أفهم بكل هذا".
قال عبدالله: "علينا أن نبحث لاحقاً عمن ينفذ هذه الفكرة، لكني قلت لك لدي فكرة أخرى، وهي فكرة يمكن تنفيذها فوراً".
"هيا تكلم.. ماذا تنتظر؟".
" ما رأيك بشراء المطعم الذي أعمل فيه؟".
صاح نور الدين متعجباً: "مطعمك؟!".
ثم تساءل: "وهل صاحبه يريد بيعه؟".
يضحك عبدالله ويقول: "يبدو أننا محظوظان.. المطعم منذ فترة معروض للبيع، لكن لم يتم بيعه لسعره المرتفع.. أمس قال لي صاحب المطعم إنه سيبيعه بسعر أقل، لأنه محتاج للمال لأمر ما، وسيبيعه حتى ولو بنصف الثمن".
قال نور الدين على الفور: "إذن، أنا سأشتريه.. وعلى الفور".
"هكذا ببساطة.. ودون أن تعرف السعر؟".
"هيا بنا إلى المطعم بسرعة.. لنْ أفوِّت هذه الفرصة السانحة، ولن أؤخرها لحظة واحدة".
الفرص التي نعتقد أنها مفيدة لا تتكرر كثيراً في الحياة، وعلى الإنسان أنْ يقتنص النادر منها، والفرصُ المضيئة شرارتها تومض بسرعة؛ وتخبو بسرعة أكبر..
لذا نندم على فواتها إن لم نحسن إدارتها والتعامل معها، والذكي من يرصدها ولا يضيعها.
أما الذين يتقنون إضاعة الأهداف، فلن يعرفوا كيف يصوبون سهامهم في الاتجاه الصحيح، وأحياناً يوجهون القوس - جهلاً - نحو صدورهم مباشرة، دونَ أنْ يفقهوا الخطر الكامن.


المشهد الحادي عشر:

أثارت حماسة نور الدين في لبِّ صديقه عبدالله حماسة موازية..
وبعد فراق طويل يقترب المشهد من لقاء جديد دائم، لقاء تربطه ذكريات الحياة، لقاء تنسجه الأيام بعزفها المبهج والمحزن..
مكان واحد يجمع صديقين بعد فراق..
مكان قضى فيه النادل جزءاً كبيراً من عمره، يعرفه السيد نور الدين جيداً.. ولطالما كان يأتي صديقه في ساعات الرخاء كما في ساعات الشدة.. يجتمعان اليوم فلا يفترقان.
ما أجمل الصداقة؛ كنز من صدق ووفاء، رمز عطاء وجنة حياة.. فكم من أخ فارق أخاه وقضى عمره الباقي بحثاً عن صديق فلا يجده.
وها هو الشاعر القروي يسمو بالصداقة فوق كل اعتبار فيقول:
لاشيء في الدنيا أحب لناظري / من منظر الخلان والأصحاب
وألذ موسيقى تسر مسامعي / صوت البشير بعودة الأحباب
وعندما وصلا المطعم وقابلا صاحبه لم تكنْ عملية البيع والشراء تحتاج إلى كثير من نقاش ومزيد من تفاوض.. المَال موجود، وصاحب المطعم يريد البيع.. والمشتري يريد إتمام الصفقة..
وفي وقت قياسي.. انتقلت ملكية المطعم إلى السيد نور الدين..
باشر نور الدين مهام عمله منذ اللحظة الأولى..
طلب من صديقه النادل أن يكون مديراً للمطعم..
لكنَّ عبدالله أبى ذلك وفضَّل أنْ يبقى نادلاً..
صاحب المطعم الجديد أصرَّ على موقفه حتى أقنع صديقه القديم بأن يدير المطعم، لأنَّه لا يفقه شيئاً في إدارة المطاعم، ولا يعرف من المطاعم غير أن يجلس ويتناول الطعام..
ومرَّت الأيام بشكلها المعتاد، لم يتغير شيء..
وبقي النادل يقدم الطعام للزبائن دون تغيير رغم أنه أصبح مديراً للمطعم..
وفي يوم..
وعند الساعة الواحدة ظهراً..
دخل المطعم رجل طويل نحيف..
مستدير الوجه، تحت أنفه شاربان عريضان، وفوق أنفه نظارة سوداء جميلة وأنيقة من الطراز القديم.
دخل الرجل بقامته العالية النحيلة، وثيابه الأنيقة..
لم يتوجه نحو مكانه المعتاد.. بل وقف وسط المطعم ونظراته باتجاه النادل مباشرة.
كان دخول السيد وحيد غير متوقع على الإطلاق..
ذاكرة الماضي خفَّ وهجها منذ أن غرق النادل عبدالله في عمله ومسؤولياته الجديدة، حتى أنه نسي جرحه العميق كما نسي آثار القيود..
ما زال السيد وحيد كما كان.. نظارة تحجب عينيه وجانباً من وجهه، شاربان عريضان يخفيان الجانب الآخر..إنه هو نفسه.. لم يتغير.. حتى شعره وسترته.. ومشيته..
دون مقدمات.. ودون أنْ يطلب ق___ه المعتادة وتوسته المعتاد.. توجه نحو النادل وقال بصوت منخفض: "سأدمرك؟".
لم يدرك النادل رداً.. فرغ رأسه من الكلمات.. والرأس عندما يفرغ من محتوياته بصدمة لا شيء ينشطه غير صدمة أخرى.. ورؤية السيد وحيد من جديد صدمة أخرى تصيب النادل..
وقف واجماً متسمِّراً في أرضه كأنَّه لوح خشب أو قطعة ثلج، أو شجرة عارية في مهب ريح..
اختلطت عليه الأمور في لحظات..
شعر بآلام القيود تكبل يديه.
شعر بالجرح الذي في كتفه.
أحيت الصدمة في نفسه صرخة ضجت في أذنيه: "أوقعت نفسك في خطأ جسيم.. تطفلك قادك إلى حتفك".
تذكر الجملة.. سمعها في مكان ما.. وزمن ما.. عادت له صورة الحقيبة المرعبة..
تذكر فمها كيف تضخم وتضخم.. حتى انقضت عليه والتهمته تماماً..
"ترى لماذا عاد السيد وحيد بعد طول غياب.. وما سرُّ عودته، الحقيبة اختفت، وكنت أظن أنه لن يعود في يوم من الأيام".

المشهد الثاني عشر:

وقف النادل واجماً لا يدري ما يفعل.
دخلت مجموعة من الزبائن.
اقتربوا من النادل.
نظر إليهم السيد وحيد نظرة حادة.. ثم خرج من المطعم بخطوات واسعة..
سيطر الاضطراب على قلب النادل.
اخترق الألم منطقة الصدر ومضى في طريقه حتى لامس كل كيانه.
في لحظة واحدة استعاد كل شيء..
لحظة واحدة كانت كافية لتحدث انفجاراً ذهنياً يطلق كل مكنونات الذاكرة الهاربة نحو المجهول.
هنا بلغ الاضطراب ذروته، وتصاعدت خيوط الذاكرة لتتشابك تفاصيلها بلمح البصر، كسهم مريع، انطلق من قوس ناري فتاك.
ليس من البساطة أن نتجاوز الخيال في واقعنا.
ليس من الطرافة أن نستعيد ذكريات مؤلمة نسيناها، لكن الذاكرة نقش على حجر، يغطيها غبار السنين حيناً. ثم تعود كنبع ماء، يحمل كل الماضي بآلامه وأفراحه.
وذاكرة النادل المنقطعة على فترة محددة استعادت نشاطها بعد سبات.
ليس حضور السيد وحيد هو السبب الوحيد في ذلك؛ لكن عجزه عن تناول الثمرة المرّة كاملة ساهم في عدم اندثار تلك الذاكرة تماماً، ولم تكن تحتاج لإحيائها من جديد سوى لصدمة بسيطة، أقل بكثير من أثر عودة السيد وحيد في نفسه.
بدأ النادل عبدالله يستعيد أطراف المغامرة العجيبة.
تذكر طقطقة عظامه وهو يسقط مرتطماً بالأرض بعيد ابتلاع الحقيبة له.
تذكر الضربات التي انهالت عليه من كل جانب.
تذكر الرسوم والخربشات المتناسقة على الجدران التي بدت وكأنها كتابات قديمة تحتاج إلى عالم آثار حتى يفسرها.. ويكشف أسرارها..
تذكر السيد وحيد وهو يصيح به: "أوقعت نفسك في خطأ جسيم.. تطفلك قادك إلى حتفك، أنت تستحق العذاب الذي سيصيبك.. أنت لم تر شيئاً من العذاب حتى الآن.. سوف نعذبك حتى تنسى اسمك.."
استرجع ذكرى القيود.. بعد أن تحرر من قيود الذكرى..
تذكر مجموعة الأقزام التي أخبرته وهي تحاول إنقاذه أنه في بلاد الأفكار المكشوفة، وأنه لا يستطيع أن يخفي سراً، فكل من يعيش في تلك البلاد يمكنه قراءة أفكار الآخرين.
تذكر أن الأقزام حذروه، وأخبروه أنهم كانوا يعيشون في أمان حتى جاء الأشرار وزعيمهم السيد وحيد: "الأكثر شراً بينهم.. وهو يستقدم من حين إلى آخر رجالاً من عالمكم ليعذبهم ويقتلهم" .
اكتشف أن الحقيبة لم تكن سوى فخ..
"هو يستخدم الحقيبة لكي يخطف الفضوليين أمثالي ليستمتع بلعبة التعذيب والقتل..
عاد اليوم لينتقم مني بعد أن اختفت الحقيبة..
لكن كيف عاد السيد وحيد والرجل الحكيم أخبرني أنه سيختفي مع اختفاء الحقيبة؟!".
تذكر كيف استنجد به الأقزام لمساعدتهم بالقضاء على السيد وحيد.. عندما اقترب منه قزم كبير بالسن قائلاً: "يا بني.. أنقذناك الآن منه، لكنه إنقاذ مؤقت.. عليك أن تساعدنا لنتخلص جميعنا منه، وإلا ستبقى في هذه البلاد ولن تعود إلى بلادك أبداً..".
طلب الأقزام من النادل أن يكون طعماً للأشرار؛ أن يستدرجهم إلى مكان مليء بالأشجار العالية، حيث يختبئ الأقزام، وعندما يصل الأشرار سوف يبدأ القتال بينهم حتى يقضوا على الأشرار تماماً..
كان يريد مساعدتهم، لكنه اكتشف أن الأقزام أنفسهم يريدون التخلص منه أيضاً، لأنهم لا يستطيعون إعادته إلى دياره في الوقت المناسب.. خاصة أنهم لا يحبون العيش مع مخلوقات مثله. فأدرك النادل أن الخطر يحيط به من كل جانب.. كان يرغب بمساعدتهم لكنهم لن يساعدوه، بل سيؤذونه أيضاً..
وعندما هرب منهم التقى بأرنب جميل يحب الحياة أخبره أنه في عالم الأفكار..
"نقرأ كل الأفكار التي تدور من حولنا"..
ثم ساعده الأرنب للوصول إلى الرجل الحكيم الذي قال له: "عبرت أخطاراً كثيرة.. أصبحت الآن بأمان.. سوف تعود إلى ديارك بوقت قصير وترتاح من كل هذا التعب".
كان شريط الذكريات يمر أمام ناظري النادل بسرعة كبيرة.. يقف أمامها مشدوهاً لا يكلم أحداً..
وفي هذه اللحظة جاء نور الدين جاء ليكلمه، لكنه لم ينتبه لوجوده..
فصاح نور الدين بصوت مرتفع، عندها سقط النادل على الأرض مغشياً عليه وكأن صاعقة أصابته.


المشهد الثالث عشر:

استيقظ النادل بعد فترة مصدع الرأس.. مدركاً أنه لا يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة عما جرى له.. فذاكرته التي انتعشت من جديد لا يمكن أن يكشفها لأحد حتى لا يعود مجدداً إلى بلاد الأقزام، كما قال له الرجل الحكيم محذراً من كشف سر الحقيبة..
ما أصعب هذا الموقف..
المشكلة تتعاظم أمامه.. السيد وحيد توعد بأن يدمره..
لا شك أنَّ السيد وحيد غاضب جداً من اختفاء الحقيبة.. فبعد أنْ تبعه من خلال النفق تمكَّن النادل من تناول جزء من الثمرة، اختفت الحقيبة لكن السيد وحيد لم يختف.. خرج منها في اللحظة الأخيرة.. لكنه أصيب هو أيضاً بضعف شديد فتوارى عن الأنظار لفترة حتى تعافى ثم عاد إلى النادل لينتقم منه.
المشكلة أنه لا يستطيع إخبار صديقه نور الدين بهذه الأحداث الخطيرة، ولا يستطيع أن يخبر الشرطة.. فسوف يسألونه عن سبب ملاحقة السيد وحيد وتهديده له.. كما أن السيد وحيد سينكر ذلك.. فليس هناك دليل واحد على ما يدعيه، والخطر كامن بكشف الأحداث التي مر بها.
اشتد المصاب على النادل..
كان ممداً على السرير في غرفة واسعة في المستشفى وبالقرب منه مجموعة من الأسرة مشغولة بالمرضى..
صاحب المطعم اتصل بالإسعاف بعد أن سقط النادل على الأرض دون حراك..
الطبيب كان يقف إلى جوار سريره..
لم يجد الطبيب سبباً مرضياً لما أصاب النادل من غياب عن الوعي، فكّر بأن يسأل النادل عمّا أصابه.. فقال النادل قبل أن يتكلم الطبيب: "أنا لست مريضاً يا سيدي.. بل شعرت بدوار مفاجئ".
الطيب تفاجأ برد المريض قبل سؤاله.. وبدت عليه آثار الدهشة..
في هذه اللحظة أدرك النادل أن قدرته على سماع الأفكار عادت إليه كما أخبره الحكيم..
فقال النادل بصوت مرتفع: "يا لها من مصيبة.. كيف أستطيع العيش وأنا أسمع أفكار الآخرين دون أن يتكلموا.. لا أريد ذلك".
لم يعلق الطبيب على ما قاله النادل، ظن أنه يهذي..
وصف له بعض الأدوية المهدئة.. ثم طلب من الممرض الانتباه له خلال الساعات المقبلة، وأن يسمح له بالخروج صباحا إذا ظلت حالته مستقرة، معتبراً أن ما حدث له مجرد حادثة عابرة وقعت نتيجة صدمة نفسية ليس لها علاقة بالطب البدني.
النادل يشعر أنه سيصاب بالجنون؛ هو الآن يسمع أفكار الناس، ليس من هم في الغرفة فقط من مرضى وممرضين وأطباء، هو يسمع أيضاً أفكار الناس في الممر الخارجي، وفي الغرفة المجاورة لغرفته.
يا لها من مأساة، بل ما أعظمها من مصيبة..
كيف يمكن للإنسان أن يسمع ما يدور في رؤوس الآخرين؟
إنَّ حياة مثل هذه الحياة لن تكون سهلة.. ففيها من المصاعب مالا يحتمل، وإنَّ إنساناً بهذه الميزة لنْ يصبر على علاقة مع إنسان.. وقديما قالوا: "لو كانت الذنوب تفوح لما جلس أحد إلى أحد".. وأي إنسان يخلو من الذنوب والشوائب..
البشر ليسوا ملائكة.
كيف يمكن للإنسان أن يتحمل النظر في وجوه الناس وهو يعلم كل ما في أفكارهم؟
"أي الرجال المهذب"..
كل امرء يضمر أكثر مما يظهر، وكل نفس فيها الكثير الكثير من المساوئ التي لا يريد أن يعرفها الآخرون، ولو اطلع الناس على حقيقة كل شخص ربما لما جلس أحد مع أحد.

وقديماً قال النابغة:
لئنْ كنتَ قد بُلغتَ عني وشايةً لَمُبْلغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
فلا تتركني بالوعيدِ كأنني إلى النّاسِ مَطليٌّ به القارُ أجْرَبُ
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تلمهُ على شَعَثٍ أيُّ الّرجال المُهَذَّبُ؟


المشهد الرابع عشر:

النادل عبدالله لا يضمر في نفسه ضغينة لأحد، عاش عمره بعيداً عن المشاكل والضغائن، خاصة أنه لا يعرف الكثير من الأصدقاء، وليس لديه أقارب يزورهم ويزورونه، ولم يكن يشغل نفسه بغير العمل في المطعم، ولم يكن لديه إلا صديق واحد هو نور الدين، الذي انقطعت علاقته به منذ سنوات ثم عادت وتجددت فجأة بعد مغامرته العجيبة وحاجته إلى صديق يخبره عن همومه..
لكنه لا يستطيع أن يشارك نور الدين بهذه المشكلة..
وفي هذه اللحظة من التفكير المختلط مع الأصوات الكثيرة.. سمع صوتاً يعرفه.. هو صوت نور الدين.. يقول في نفسه: "إرجو الله تعالى أن يكون عبدالله الآن بخير وسلام".
"يا لهذا الألم المستجد"..
شعر النادل بجراح ساخنة تسري في أنحاء جسده..
سمع أفكار نور الدين قبل أن يصل إليه..
"لا شك أنه الآن سيدخل الغرفة"..
وما هي إلا لحظات حتى دخل نور الدين غرفة صديقة وفي يده باقة ورد كبيرة..
استقبل عبدالله صديقه نور الدين بترحاب شديد.. وقال له دون مقدمات: "أنا بخير يا صديقي.. أريد أن أخرج من المستشفى حالاً"...
قال نور الدين: "سألت عن صحتك قبل قليل فقالوا لي أنك سليم بحمد الله، وستخرج صباح غد حسب توصية الطبيب"...
"أنا أريد الخروج الآن.. لا أستطيع البقاء إلى الصباح.. لنْ أتحمل ذلك.. أخرجني حالاً.. خذني إلى منزلك لا أريد الذهاب إلى منزلي".
"حاضر.. لا تقلق.. المهم أن تهدأ أعصابك.. سأذهب إلى قسم المحاسبة لأنهي معاملة خروجك على الفور.. لا تزعح نفسك".
لم يسأل نور الدين صديقه عن سبب ما حدث..
لم يكن يريد أن يفتح باب الحديث حتى لا يشعر عبدالله بأي قلق..
تركه بضعة أيام ليرتاح لكنه بعد ذلك لم يكن راضياً عن حبس عبدالله لنفسه في المنزل.
كان عبدالله يعرف ما يدور برأس نور الدين.. يريد منه أن يعود إلى العمل لكنه كان يرفض على الدوام وبإصرار العودة إلى العمل أمر كارثي..
يريد أن يبقى في المنزل بعيداً عن الناس، لا يريد أن يسمع صوت فكر أحد منهم..
هو يظن أن الهروب من الواقع فرصة مؤاتية للتحرر من مشكلات آنية يواجهها الإنسان ولا يجد لها ملاذاً.. لكن الإنسان الذي يدمن الهروب بدلاً من المواجهة؛ يبقى ردحا طويلاً من حياته يركض ويركض بلا هوادة.. لكن الهروب إلى متى وإلى أين؟!
وفي النهاية..
متى كان الفرار من مواجهة الواقع حلاً صحيحاً لما يتعاظم من مشكلات على طريق الحياة؟
أليست المواجهة هي الاختيار الأمثل؟ والكر أجدى من الفر؟
فكل مشكلة لا بد من وجود حل لها، مهما تعاظمت، كما أن لكل داء دواء ولكل أزمة فرج. لكن الأمر في الواقع ليس بهذه السلاسة النظرية، فالتجربة القاسية التي خاضها النادل ليست سهلة وبسيطة.. وهو اليوم مهدد من شخص شرير، شخص جرب مساوئة وأعماله المؤذية، وعليه أن يواجه هذا الرجل مرة جديدة.
ما أصعب التجربة عندما يخوضها الإنسان مرتين! فعليه في المرة الثانية أن يكون أكثر وعياً وحنكة ودراية، وأن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وإن قيل له: (دير النية وانعس مع الحية)، وهو مثل سمعه من سائح مغربي قدم إلى مطعمه يوماً، واسمعه هذا المثل الطيب الذي يدل على أنَّ معدن الإنسان وصفاءه كفيلان بحمايته حتى وإن كان في جحر حية.
المشكلة أنه يتعامل مع السيد وحيد وليس مع الحية، فكيف يمكن أن يعتمد على نواياه الطيبة؟ فهذا الرجل ماكر جداً.. استطاع بدهائه ومكره أن يخدع النادل ومن قبله أشخاصاً كثر باستدارجهم إلى تلك الحقيبة العجيبة.


المشهد الخامس عشر:

صديقه السيد نور الدين، مالك المطعم الجديد، حاول أن يحصل على إجابة مرضية عن سبب رفضه الخروج من المنزل، لكن عبدالله كان يتحجج بأمور غير مقنعة..
صار نور الدين يتأخر عن العمل، وصار يقضي وقتاً أطول مع صديقه عبدالله..
كلف أحد العمال الموثوق بهم، بناء على توصية من عبدالله، بأن يدير المطعم في غيابهما..
عاد الكسل يسيطر على نور الدين، والنادل عبدالله يلاحظ ذلك ويحث صديقه على الذهاب الى المطعم، فيقول له: "لا يوجد ما يشجعني على الذهاب، فأنت مشجعي الوحيد، ما دمت لا تذهب إلى المطعم فإني لن أذهب مثلك".
وكان هذا التكاسل من نور الدين، والخوف من مخالطة الناس من عبدالله سببين في تقارب الصديقين أكثر فأكثر..
كان عبدالله يسمع أفكار صديقه التي لا يبوح بها، فازداد حبه له لنقاء سريرته وصدق نواياه، لكنه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يحكي له عن قصة الحقيبة، فهو يعلم أنه لو كشف السر لن سيعود إلى الحقيبة ولن يخرج منها أبداً..
مع كل المخاطر التي تتهده بوجود السيد وحيد، ورغم الخطر الذي قد يواجهه في كل لحظه إلا أن هذا الخطر هو أقل بكثير من الخطر الذي من المحتمل أن يواجهه داخل الحقيبة، فالسيد وحيد تضعف قواه خارج الحقيبة، كما أن سكان الحقيبة يريدون هم أيضاً التخلص من وحيد وشروره والأشرار الذين يحيطون به..
وإلى متى يظل مختبئاً في منزل السيد نور الدين، هل يريد أن يقضي عمره مختبئاً، كما أنه لا يريد أن يسمع أفكار الناس، فهذه مهمة صعبة للغاية، كما أنَّ السيد وحيد قد يكتشف مكانه وينقض عليه فجأة قبل أن يتنبه لحضوره..
وفي ليلة قال لصديقة نور الدين إنه يواجه خطراً شديداً، وإنه هو أيضاً ضمن دائرة الخطر.
سأله إن كان يقبل أن يخاطر معه؟
وكان متأكداً من مساندة نور الدين له، لكنه أراد أن يسمع ذلك قولاً لا فكراً..
وعندما نطق نور الدين قائلاً إنه سيكون معه وحتى في أصعب الظروف، طلب منه أن لا يسأله عن سبب ذلك، لأنه لا يستطيع أن يكشف السر، لأن كشف السر فيه خطر كبير عليه، ويجب أن يصدق كلامه كيلا يقع في المخاطر..
أدرك النادل أن هنالك خطأ ما قد حدث، وهذا الخطأ أسفر عن عودة ذاكرته، وأدى إلى أصابته بعدوى قراءة الأفكار، كما أن عودة السيد وحيد غير مبررة، فكيف يعود بعدما أخبره الرجل الحكيم أن السيد وحيد سيختفي مع اختفاء الحقيبة.. فقد كان واثقاً بأن الرجل الحكيم لم يكذب عليه؟
كانت الأفكار الكثيرة تراوده بلا انقطاع، لكنه لم يجد جواباً لها..


المشهد السادس عشر:

قرر عبدالله أن يعود إلى بيته ليبحث عن شيء ما يفسر له بعض الحلقات المبهمة.. وعليه أولاً أن يبحث عن بقايا الثمرة..
هو يذكر أنه خلال تناوله الثمرة تساقط بعض منها على الأرض وأنه لم يتمكن من ابتلاعها كلها..
كما أن الحقيبة لم تختف على الفور.. لأنَّ تناول الثمرة أخذ وقتاً فطعمها كان مراً وغير مستساغ، وكانت نفسه مشمئزة من مرارتها.. لكنه غالبها حتى غاب عن الوعي، وبعد أن استعاد وعيه لم يجد الحقيبة..
قال النادل لصديقه: "اليوم قررت الخروج من المنزل..".

فرح السيد نور الدين كثيراً بقرار عبدالله، وكان الأمر مفاجئاً له ومع ذلك بادر على الفور بالموافقة على الخروج ودون أي تأخير حتى لا يعود صاحبه عن قراره.. وهو يظن أن النادل قرر العودة لاستئناف عمله في المطعم.. فقال: "المطعم يحتاج إليك يا صديقي.. وبالتأكيد أن جميع الزبائن يسألون عنك وعن سر غيابك".
قال عبدالله: "أنا سأخرج ولكن ليس إلى المطعم، وأنت ستكون معي".
فكر السيد نور الدين، وعبدالله يسمع أفكاره..
فأجابه قبل أن يسأل:
"سنذهب إلى منزلي للبحث عن شيء ما يخلصني من المشكلة التي أنا فيها..
أنا أعترف لك أنني في مشكلة، لكني لا أستطيع أن أفصح عنها، فهي في غاية الخطورة والكتمان، وأنت سترافقني لوجود خطر..
ونحن الاثنان لن يقدر علينا هذا الخطر بسهولة، وهي مشكلة لن تحل إلا إذا واجهتها بنفسي".
أخيراً أدرك النادل أن المشكلة لن تحل إلا من خلال مواجهتها، فالانتصارات الكبرى لا تتحقق بسهولة، وكيف يمكن أن يتخلص من عبء ما أصابه من عدوى وخطر داهم دون أن يواجه الواقع.


المشهد السابع عشر:

بيت النادل كان رأساً على عقب..
صعق نور الدين من رؤية الأثاث المبعثر، وكأنه تعرض لعاصفة هوجاء أو لزلزال مدمر..
"من الواضح أن السيد وحيد مر بالمكان".
لم يبدِ النادل أية خشية على شيء ثمين مفقود، فهو يعرف أن بيته لا يغري اللصوص..
لم يعتقد لحظة بأن البيت تعرض للسرقة، كان متأكداً من أن السيد وحيد هو الذي قام بعملية اقتحام المنزل وتخريبه.
طلب عبدالله من صديقة نور الدين أن يبحث معه عن بقايا الثمرة..
من المؤكد أنَّ هذه البقايا أصابها الجفاف.. لكنَّه يريدها..
سأله نور الدين عن سبب إلحاحه بالعثور على هذه الثمرة؛ فأخبره مجدداً أنه لا يستطيع أن يكشف له عن سرها.. ثم قال في نفسه:
"من الضروري أن أجد البقايا لآكلها.. ربما أنسى ما حدث ويختفي السيد وحيد كما اختفت الحقيبة".
يبحث الصديقان فترة طويلة.. ولا يجدان لها أثراً..
يبدو أن السيد وحيد كان يبحث عن الشيء نفسه، وسبقهما إليه..
عثر النادل على أثر الثمرة على بساط قديم على مقربة من السرير.. إلى جانب زاوية من زوايا الغرفة..
وقف النادل حزيناً مـتألماً.. فقد آخر أمل له لإسدال الستارة على هذه الورطة التي وضع نفسه فيها منذ أن قرر أخذ الحقيبة إلى بيته.
ازداد قلق النادل..
كان نور الدين لا يدري تماماً ما سبب كل هذا الاضطراب، وما الداعي لكل هذا الخوف الذي يشعر به عبدالله.. وكان يلح لمعرفة الجواب وصديقه لا يجيبه، لأن الإجابة عن هذا السؤال تعني حكماً أبدياً بالسجن داخل الحقيبة..
قال عبدالله لصديقه نور الدين إنه لن يستطيع العودة إلى المطعم حتى يتمكن من حل هذه المشكلة.. مؤكداً له أنه مهدد من جانب السيد وحيد.. وعليه في المقابل أن يعثر على السيد وحيد ليسترجع ما تبقى من الثمرة التي فقدت من منزله.. لأنها ثمرة مهمة وستحدد مستقبله..
أطرق نور الدين رأسه قليلاً ثم قال:
"لا أريد أن أحبطك أكثر يا صديقي، لكن كما فهمت منك أن هذه الثمرة تخصك وحدك فقط، وعثورك عليها يفيدك كما يضر السيد وحيد.. لذا لا أظن أن السيد وحيد سيحتفظ بها، بل هو على الأرجح تخلص منها فور عثوره عليها.. وربما ألقاها في مرحاض منزلك ليضمن أنك لن تعثر عليها مرة ثانية أبداً.. من هنا أقترح عليك التفكير بحل آخر غير حل الثمرة".
فكر عبدالله بأن كلام نور الدين هو الاحتمال الأقرب إلى الواقع، وليس أمامه سوى حل واحد وهو أن يقضي بنفسه على السيد وحيد..
لكن المشكلة الكبرى لم تعد فقط السيد وحيد، بل هي العدوى التي أصابته بسماع أفكار الآخرين وكأنها أصوات يسمعها بشكل طبيعي.. وهو أمر لا يمكن لإنسان سليم العقل أن يتحمله، فكيف له أن يسمع كل ما يفكر به الناس، فلا يستطيع بعدها أن يجلس مع أحد من زبائن المطعم، كما أنه سيسمع أفكار الزبائن كلهم في وقت واحد، وسيعرف ماذا يفكر كل واحد منهم، سواء أكانت أفكارهم خيرة أم شريرة..
غمرت النادل كآبة شديدة.. كيف يمكن أن يواجه كل هذه العقد المستعصية الحل لوحدة؟!
وضع نور الدين يده على كتف عبدالله قائلاً: "لا تيأس يا صديقي، فكل مشكلة لها حل، وأنا سأكون معك في أي خطة ترى أنها مناسبة للخلاص من المشكلة".
قال النادل: "علينا أولاً أنْ نفكر بطريقة نقضي بها على السيد وحيد، ثم هنالك مشكلة أخرى يجب أن أجد حلها لوحدي".
نور الدين وبحماسة شديدة: "إذن لنبدأ بحل المشكلة الأولى، ما هي اقتراحاتك للقضاء على السيد وحيد؟".
النادل: "علينا العثور عليه، هو لم يتوقع أن أعود الآن إلى البيت، كما أنه لا يتوقع أن أعود إلى المطعم، وهي أيضاً لا يعرف منزلك.. لكنه بالتأكيد يقوم حالياً بالبحث عني، وسوف يعود بالتأكيد مرة أخرى إلى المطعم بعد أن ييأس من العثور علي، على الأقل يعود ليسألك أنت باعتبارك مدير المطعم.. لذا علينا أن نعود إلى المطعم ونترقب عودته في أي لحظة، وعندما يأتي عليك أن تشعره بأنك لا تعرفه، وأكون مختبئاً في غرفة مجاورة دون أن يعلم ذلك أحد من عمال المطعم، وعندها ننقض عليه معاً ونقوم بتكبيله".
فكر نور الدين بأنه سيضع صديقه في خطر أكيد..
قال له النادل قبل أن ينطق بكل واحدة:
"لا تقلق يا صديقي سوف أكون مستعداً له قبل وصوله للقبض عليه مستخدماً رذاذاً مخدراً حيث سيصاب بالوهن، ثم سنقوم بتقييد حركته، وإرغامه على كشف طريقة التخلص من المشكلة التي أعانيها، إما أن يخبرني بالطريقة أو نقضي عليه".
لكن نور الدين شكك بقدرة صديقه على إرغام السيد وحيد والضغط عليه للإفصاح عن الحل المنشود، لكن النادل طمأنه بأن لديه طريقة مضمونة، دون أن يعرف نور الدين أنَّ النادل لديه قدرة على قراءة أفكار الآخرين ونور الدين واحداً منهم.


المشهد الثامن عشر:

قضى نور الدين وعبدالله أياماً في المطعم يترقبان احتمال مجيء السيد وحيد..
كان عبدالله يشعر بضيق شديد لأنه يسمع أفكار الزبائن وكل العاملين في المطعم دون أن ينطقوا بحرف واحد..
حاول بشتى السبل أنْ يفكر بشيء آخر لكي لا يلتقط أفكار الآخرين..
ابتعد إلى أقصى مكان في غرفة عبدالله لكي لا يسمع كل هذه الأصوات الخفية.. وكيلا يعرف ما يضمره كل شخص في سره.
كان هذا الأمر أكثر شيء يؤلمه.. لكنه لا يستطيع الآن التراجع، ففي أي لحظة ممكن أن يأتي السيد وحيد..
وفي صباح مبكر..
في وقت يندر دخول الزبائن إلى المحل..
وصل السيد وحيد، وتوجه مباشرة إلى غرفة المدير التي تقع في زاوية من زوايا
المطعم.. دخوله المفاجئ ودون استئذان لم يمنح عبدالله فرصة لكي يختبىء كما كان مخططاً..
كان عبدالله يتناول طعام الفطور مع نور الدين.. وعندما دخل الغرفة نهض الاثنان وكأنهما شاهدا وحشاً يريد أن يفترسهما..
دخل السيد وحيد بهدوء وبرباطة جأش..
حاول عبدالله أن يسمع أفكار السيد وحيد الذي كان ينظر إليه نظرات ساخرة وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة..
"محاولتك هذه لن تنجح معي.. لن تسمع مني غير ما سأقوله لك".
أدرك عبدالله أنَّه لا يستطيع سماع أفكار السيد وحيد، لم يكن يريد الإفصاح عن ذلك أمام صديقه حتى لا يعود إلى الحقيبة ويسجن فيها إلى الأبد..
عندها بادره السيد وحيد بالقول: "بإمكاني أن أعذبك وأن أقتلك، لكني محتاج إليك كما أنت محتاج للثمرة المرة.. لذا لا يوجد أمامنا سوى أن نتعاون، أنا لدي الحل وأنت لديك القدرة على تنفيذه.. وتعاوننا سينهي مشكلتك كما أنه سينهي مشكلتي".
لم يكن السيد وحيد يريد الحديث بوضوح أمام نور الدين، فهو يتكلم تلميحاً ويعلم أن عبدالله يفهم مقصده.
"نتعاون.. وبأي شيء نتعاون وأنت شرير لا تعرف إلا الشر".
يضحك السيد وحيد ويقول: "لماذا تظلم شخصاً يحبك بهذه الاتهامات وأنا برىء منها؟".
سادت المكان فترة قصيرة من الصمت، خرقها صوت السيد وحيد: "سأقول لك الحل.. ولا مجال للاختيار.. هو الأمل الأخير لي ولك".
"أنت الداء وأنت الدواء!.. يا لهذه السخرية.. قل لي ما هو الحل الذي تقصده؟".
قال السيد وحيد وهو يظهر الأدب بأسلوب ممثل بارع:
"الحل يا سيدي بكل بساطة لن يكون إلا بعودتك إلى الحقيبة، فأنا لا أستطيع العودة إليها بعد أن اختفت نتيجة تناولك جزءاً كبيراً من الثمرة المرة، وأنا لحقت بك لأمنعك من تناولها، لكني للأسف وصلت في اللحظة التي كنت تتناول فيها الثمرة، فاختفت الحقيبة، وبقيت أنا، كان بإمكاني القضاء عليك من أول لحظة، لكن ذلك سوف يقضي بالتالي على آخر أمل لي بالعودة إلى الحقيبة".
وتابع وحيد حديثه قائلاً:
"عندما تعود إلى الحقيبة سوف يظهر لك طائر ضخم رأسه صغير جداً، هو يعلم تفاصيل الأمر، وسوف يحملك على ظهره إلى شجرة تفاح عجيبة ثمارها من كل الألوان..
عليك أن تنتبه جيداً إلى ما سأقوله لك الآن؛ تحمل الشجرة تفاحاً بألوان وأحجام شتى، طعمها شهي للغاية، وشكلها أشهى، لا تقترب من أي واحدة منها، كن شديد الحذر، لا تتناول أي واحدة منها فهي سامة وسوف تقتلك على الفور، ابحث عن تفاحة صغيرة نصفها أحمر ونصفها الآخر باللون الذهبي.
وإياك إياك أن تمس أي تفاحة أخرى..
سوف يساعدك الطائر الضخم حتى العثور على تفاحتين بهذه المواصفات..
تفاحة لك وتفاحة لي..
ثم تعود إلينا على الفور، ستكون رحلتك صعبة وسهلة في آن معاً، وعندما تعود ستقوم على الفور بقضم تفاحة واحدة فتنتهي مشكلتك التي تعرفها مباشرة، كما أني سأتناول التفاحة الثانية لأعود إلى الحقيبة، وبذلك تنقذني وأنقذك.. أتخلص من مشكلتي وتعود الحقيبة لي أنا وحدي، كما كانت..
أما أنت فسوف تتخلص من مشكلتك وتعود إلى حياتك السابقة، وستنسى كل ما حدث لك من قبل، وعليك أن تعود بأسرع وقت ودون تأخير، لأن الوقت محدود جداً.. الطريق الذي ستعود منه لا يمكنك سلوكه إلا مرة واحدة كل عام. كما التفاحة تفقد قوتها بعد فترة قصيرة، ولو تأخرت كثيراً لن تتمكن من العودة من جديد وستبقى في الحقيبة إلى الأبد".
"ولكن كيف سأعرف الطريق الذي سأعود منه؟".
"سوف يحملك الطائر إلى مكان قريب من طريق العودة.. ويرشدك إلى مخرج يعيدك إلى هنا حيث سأكون بانتظارك".


المشهد التاسع عشر:

فكر النادل بما قاله السيد وحيد، فهو لا يثق به ويخاف من شروره..
"وما الذي يضمن لي أنك لن تتعرض لي مستقبلاً؟".
"سأكتب لك تعهداً بذلك، وأقسم بأني لن أسيء لك أو لصديقك في يوم من الأيام".
"هذا ليس كافياً.. فأنت لا يمكن الوثوق بكلامك".
"لا حل عندي غير هذا الحل.. وهذا خيارك الوحيد".
ليس أمام عبد الله إذن إلا الموافقة أو التعرض لأذية السيد وحيد واستمرار مشكلته بسماع أفكار الآخرين..
"لكن كيف سأعود إلى الحقيبة؟".. تساءل عبدالله.
"الأمر بسيط جداً.. تكشف سرك أمام صديقك".
"صحيح!".
كان السيد نور الدين ينصت إلى هذا الحوار بتعجب شديد دون أن يتكلم..
لم يكن لدى عبدالله الكثير من الوقت للتفكير..
توجه نحوه صديقه قائلاً: "سأخبرك الآن بالسر الذي كنت أخفيه عنك، لأن البوح به كان يعني أن أختفي وأعود إلى الحقيبة إلى الأبد".
قاطعه نور الدين صائحاً: "لا تنطق بهذا السر، قد يكون السيد وحيد كاذباً وتختفي نهائياً كما كنت تقول".
قال النادل وكأنه يصدر حكماً لا رجعة عنه:
"سأخبرك بالسر.. وليكن ما يكون.. إن سبب ابتعادي عن الناس وعدم رغبتي بلقاء أحد منهم، والسبب الذي جعلني أثق بك أكثر.. هو.. هو.. أنني.. أصبت بعدوى عندما دخلت في حقيبة السيد وحيد..
وهذه الحقيبة لها قصة طويلة..
أما العدوى التي أصابتني.. والتي عندما أخبرك بها سأعود إلى الحقيبة فوراً كما أخبرني رجل حكيم أنقذني من سجن الحقيبة، فهي: سماع أفكار الناس من حولي".
وما أن نطق النادل بهذا السر حتى اهتز المكان برمته.. ولم يتمكن بعدها من الكلام.. وبدأ جسده يتلاشي ويختفي شيئاً فشيئاً.
وفي هذه اللحظة انقض نور الدين نحو صديقه متشبثاً به حتى لا يختفي ويعود إلى الحقيبة.. لأنه لم يصدق كلام السيد وحيد.
لكن النادل اختفى واختفى معه صديقه نور الدين..
في ظروف كثيرة يجد الإنسان نفسه في مواقع لم يكن يعتقد يوماً أنه سيحشر فيها، يستنفر كل قواه الثائرة، يلجأ إلى خبراته السابقة.. لكنه في النهاية يستسلم على مضض منه، محاولاً التأقلم مع وضعه الجديد.. الذي فرض عليه رغم أنفه.


المشهد العشرون:

بعد أن أمسك نور الدين بصديقه عبدالله التحما كجسد واحد.. وتفاجأ السيد وحيد باختفاء الصديقين معاً. لكنه لم يعبأ باختفاء نور الدين، وملأ المكان قهقهة.. ثمَّ جلس على الكرسي نفسها التي يجلس عليها نور الدين.. مترقباً عودة النادل، دون أن يهتم بصديقه..
لقد كانت ضحكته ممزوجة بغضب شديد.. كيف لم يفكر بهذه الطريقة لكي يعود هو أيضاً إلى الحقيبة؟!..
وفي أقل من ثانية وجد الصديقان نفسيهما يسقطان على أرض رملية ناعمة.
كانت سقطة عبدالله على أرض مستوية، أمَّا نور الدين فقد ارتطم رأسه بجذع شجرة صغيرة ما أفقده وعيه على الفور.
جزع عبدالله من وجود نور الدين معه، لم يجد مبرراً لذلك، ففي لحظة احتضان صديقه كان فاقد الإحساس بالمكان والزمان..
لم يكن ينوي توريط صديقه بمثل هذا الموقف الرهيب.
يريد أن يقوم بالمهمة كاملة لوحده دون أن يحشر نور الدين معه في مغامرته العجيبة..
وفي هذه اللحظات قطع تفكيره ظهور الطائر الضخم الصغير الرأس الذي أخبره عنه السيد وحيد.. وصار يحلق فوق رأسه..
لوَّح عبدالله بيديه للطائر..
اقترب الطائر وبادره على الفور: "من أنتما؟".
قال عبدالله: "أنا عبدالله وهذا صديقي نور الدين، أرسلنا السيد وحيد لنحضر تفاحة معينة تمكنه من العودة إلى الحقيبة".
أجاب الطائر: &
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://bakri.mam9.com
 
سر الحقيبة (الجزء الثاني)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» سر الحقيبة (الجزء الأول)
» محاضرة الدكتور طارق البكري بمدرسة فردان أمام تلاميذ المستوى الخامس الجزء الأول

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
د. طارق البكري :: القصص القصيرة جداً :: المنتدى الأول :: الروايات-
انتقل الى: