د. طارق البكري
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
د. طارق البكري

موقع أدبي وقصصي ونقدي خاص بالأطفال واليافعين والشباب
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

  جراح ساخنة:قصص قصيرة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فريهان

فريهان


المساهمات : 32
تاريخ التسجيل : 01/11/2013

 جراح ساخنة:قصص قصيرة  Empty
مُساهمةموضوع: جراح ساخنة:قصص قصيرة     جراح ساخنة:قصص قصيرة  Emptyالثلاثاء نوفمبر 05, 2013 7:19 am

.

الدكتور طارق البكري


جراح ساخنة

قصص قصيرة






القطار الذي لم يصل
د.طــارق البكري


السيد الجالس في المقعد الملاصق للنافذة يوزع نظراته...
حيناً ينظر إلى الخارج عبر الزجاج المكسو بغلالة سميكة من الغبار وحيناً ينظر إلى الناس الذين يخطون في الأرض جيئةً وذهاباً....
كان يحملق في وجهه طفل صغير.. يتنطّط أمامه بحركات صبيانيّة لطيفة..
كانت الأم منهكة ومنشغلة، لا تعنيها نظرات الناس من حولها، زحمة خانقة تسدّ الممرّات؛ بالكاد تستطيع إيجاد مقعد تلقي جسدك فوقه...
الأم تراقب باهتمام.. تلصق في صدرها طفلة في شهورها الأولى؛ تمسك ثدي أمّها.. تغوص في صدرها حتى الانصهار..
قرب المقعد حقيبة ثياب قديمة ممزقة الأطراف باهتة الألوان، تحيطها بنظراتها خشية السرقة والضياع في هذا الازدحام الفظيع..
السيد بدا مستغرقاً بمراقبة الطفل.. يتلهى انتظار وصول القطار المتأخر عن موعده، يطرد النّعاس عن عينيه، يشدّ جفنيه صعوداً ويشتدان نزولاً.. يخشى السقوط في النوم فوق مقعده الجلدي المتحجر، يغلظ على نفسه ليبقى يقظان حذراً...
القطار قد يفوت ويمضي.. لن يستطيع الانتظار يوماً آخر.
السيد حملق في الطفل، يراقب حركاته كمشهد سينمائي لافت، صافرات القطار تزعق بلا انقطاع، العجلات الحديدية تبلع الأرض في سباق محموم مع الزمن...
لاحظ السيد حبلاً في ساعد الطفل مربوطاً بإحكام..
فكر أن الأم حذرة جدا،ً تخشى ضياع طفلها في هذا الزّحام..
أطفال يُفقدون، يُخطفون، يتشردون، يتعلمون السرقة والتسول...
"حياة بغيضة كريهة...".

تمنّى السيد لو يملك عصاً سحريةً يغيّر بها العالم...
يبحث عن خلاص حقيقي لكل شيء من أي شيء خصوصاً الانتظار الممل وعادة تأخّر القطارات المزعجة...
" لا الحياة لا يمكن أن تكون بغيضة إلى هذا الحد الناس يريدونها هكذا.." .
السيد كان يسبح في خياله...
الحبل المربوط بساعد الطفل طرفه الآخر مربوط بساعد المقعد الذي تجلس فيه المرأة...
مسح الرجل نظارته السميكة.. أرخى ربطة عنقه..
"فكرة رائعة لا أدري من أين تأتي النساء بأفكارهن... ماذا دعاها لتقوم بذلك؟ أهي وحيدة؟ أرملة؟ مطلقة...؟ ثوبها يوحي بالفقر الشديد؛ لكن ابنها يرتدي ثياباً فاخرة!.." .
التناقض أثار الرجل سرح بالخيال ترك خياله يسير على راحته.. لم يشأ وقفه؛ فالقطار الذي ينتظره متأخر عن الوصول، يريد التسلية، يريد إمضاء الوقت بسلام، لا يريد النوم فيمضي القطار دونه...
مسح الرجل نظارته مرةً ثانيةً..
"اعتقد أنّ هذه المرأة أرملة.. أظنّ أنّها عائدة إلى قريتها.. لو كان زوجها على قيد الحياة لكان في وداعها.." .
فكر الرجل : أين أقاربها وأصدقائها وجيرانها؟
الطفل ما زال يلعب جوار الأم لا يفارق المكان...
الحبل يمتصّه دوماً إلى مقعد الأم..
الطفل لا يتمرّد لم يتململ من العقدة القاسية في معصمه.. يقفز فرحاً بالنّاس... من حوله يمرّ الناس؛ بعضهم يوقعه أرضا..ً يرتطمون به رغماً عنهم.. لا ينتبهون إليه.. منهم من يصيح به: ابتعد عن الطريق، ومنهم من ينحني يقبّل وجنته الصغيرة...
الأم مشغولة بطفلها وبرضيعها وبالحقيبة...
إلى جانبها رجل مشغول بهم جميعاً...
مسح الرجل نظارته من جديد... غبار القطارات يتعلق بكل شيء.. المنديل تغيّر لونه..
نظر الرجل عبر النّافذة.. ألقى نظره على القطارات المتعاقبة.. شعر بالملل الشديد.. النعاس يدب إلى عينيه، تمنى وصول القطار ليسقط نفسه في مقعد من المقاعد لينام. الخوف من عبور القطار ضيف ثقيل يشاركه جلسته مع الملل...
بلّ منديله بقليل من ماء يحمله في زجاجه؛ مسح جبهته.. مسح جفنيه، يريد مقاومة النعاس حتى النهاية...
الناس يمرون به دون اكتراث.. لم يعد يستطيع متابعة الطفل عن كثب، ضاع الطفل بين سيقان الناس، مازال النعاس يتسلل إلى عينيه بكل وقاحة..
رآه يأكل قطعة خبز فخوراً بنفسه..
ازداد الناس غاب الطفل من جديد عن عينيه... غابت الأم.
بعد مدة قام الرجل من مقعده الجلدي المتحجّر، نظر إلى ساعته، شعر أنّ القطار قد فاته منذ زمن، لم تعد يسمع الصافرات، نظر نحو الطفل؛ وجد المكان خالياً، نظر نحو الأم؛ وجد المقعد خالياً.. اقترب من المقعد، التقط قطعة خبز يابسة كان يحملها الطفل، وجدها على الأرض قرب المقعد، الحبل لا يزال مربوطاً في ساعد المقعد.. حل الرجل الحبل.. لفه على معصمه.. خرج مغادراً قاعة الانتظار.
سأل عن موعد القطار القادم..
عاد في اليوم التالي؛ جلس في مقعد الأم وفي يده الحبل مربوطاً في ساعده وفي يده الأخرى قطعة الخبز اليابسة وتذكرة القطار، يريد أن يرحل ويلحق بالطفل...
سكن المقعد، حنّط قطعة الخبز، نسج من خيطان الحبل ثوباً جديداً.
_______________________________






البيت القديم المهجور

د.طــارق البكري



تنحّت جانباً... خلف عمود يرفع على هامته سقفاً تزينه خيوط عنكبوتية؛ بعضها اسودّت مع مرور السنين، وأخر حديثة جداً لم يكمل صاحبها نشر أوصالها...
شعّ في عينيه بريق خافت مسكون بأحلام الماضي... بعد غياب طويل اقتضته ظروف قاسية؛ لم تمح آثارها بعد..
تنهّدت خلف زجاج المنزل المكسور، المكسو بغلالة ناعمة من الغبار الساكن في هذا البهو الواسع الممتد، واهتزت أصابعها وهي تحاول الإمساك بمقبض الباب؛ فأصابها ارتعاش ينبض بتلك الأيام المحملة بالألم والملونة بالدماء...
أشاحت عينيها لوهلة.....
استجمعت كل قواها الخائرة...
عندما همّت بالدخول؛ تفرّست بعلامة قديمة كانت قد حفرتها بمفتاح قديم... قبل أكثر من أربعين سنة..
فزعت، لم تقو قدماها الثقيلتان على الانتقال ولو خطوة واحدة لوطىء تراب المكان، حسبته شيئاً شريفاً لا ينبغي مسّه لسكناه في مكان عزيز عليها... وربما كان اعتداء على حرمة المكان المحفور في الذاكرة.. مثل نقش على صخرة مصقولة...
عادت بها الذاكرة إلى أيام الطفولة...
لا تزال تذكر بعض الكلمات العربية...
أمها "الجبارة" رفضت الانصياع لأمر إخلاء المنزل؛ ظلّت معسكرة فيه حتى ماتت من الجوع.... صارت الطفلة تبكي ووجدت نفسها بعد ذلك في بلاد بعيدة... تعيش بين أسرة طيبة عوضتها فقدانها للأم والأب...
وقفت مذعورة أمام المشاهد المترائية مثل خيالات تتراقص حولها...

أعمدة متهالكة.. أرضيات متشققة .. جدران متصدّعة ..
عادت الذّاكرة إلى الماضي..
يوم كانت طفلة تملأ الدار ضجيجاً وتطبيلاً..
هناك كانت لعبتها الصغيرة:
"آاااااااااااه "...
ما زالت تتذكر عندما تعثرت قدمها ووقعت على العتبة وسال الدم من أنفها، وتلطخ ثوب أمها الأخضر وهي تحملها لترضيها وتمسح عن عينيها دموع البكاء...
هناك تحت الدرج كانت تجلس لساعات، تعتبره مكاناً خاصاً، تعتبره ملكها لا يجسر أحد على الدنو منه دون إذنها...
كان الجميع يحترم اعتبارها... حتى والدها لم يعترض، رغم أنها جعلت المكان مخزناً دائماً لأشيائها الثمينة...
كانت تعيش حياة رغيدة وسعيدة...
فجأة اختفى أبوها ورأت أمها تبكي.. لم تكتشف سرّ البكاء، لكن الصغيرة أدركت أن أباها رحل إلى الجنّة شهيداً بعدما تصدى لعصابات مجرمة أتت من بعيد...
طلبت العصابات من أمّها إخلاء المنزل، رفضت وتحصّنت لأيّام دون طعام... تحمل بندقية قديمة تهدّد بها من يحاول اقتحام المنزل...
بقي قليل من الطعام فتركته لطفلتها.. فعاشت الطفلة وماتت الأم بعد أيام من الجوع والعطش...
تذكرت الطفلة "الكبيرة" كل ذلك بعدما قررت العودة إلى وطنها بجواز سفر غربي واسم غربي... إلا أن كل ما هو عربي اشتعل في نفسها عندما جاءت ضمن وفد سياحي...
كانت تسعى للوصول إلى قريتها البعيدة...
فوجئت أن بيتها القديم لا يزال جاثماً على ربوة عالية.. ربما هجره العصابات لشدّة بساطته ولمكانه البعيد عن المدينة...
اشترت الطفلة "الكبيرة" بيتها من الإدارة المدنية في المنطقة...
لم تكشف لأحد سر هذا الشراء. بل أن أحدهم إستهزأ بها وظنّ أنها مغفلة...
لكن.. هل تستطيع ولوج المكان ووطىء بساط الغبار...
إنّه أمر عسير جداً، فهذا الغبار احتضن بلاط الأرض لسنوات طويلة...
عايش نسمات الماضي...
امتلأت رئتاه بعبق الماضي الذي تحلم به ..
قفلت الباب بمفتاح قديم... وضعت لوحة كبيرة عليها اسمها الحقيقي... ليس اسمها الغربي الموجود على جواز السفر.....


السـّـاعة المنبّهة

د.طارق البكري

تقلصت كل الرؤى والأحلام على وقع رنين المنبه المزعج، الذي لا يريد أن يهدأ ولا أن يخرس...
فاتح فمه مثل حيوان مفترس يصيح بفريسته، أنا.
تسارعت الأفكار المبهمة على وسادة صفراء مضطربة كجسد يحتضر...
نبشت صيحات السّاعة المنبّهة، المسندة إلى طاولة جانبية بالقرب من سريري، حطام رأسي، شكّلت منه فسيفساءً عملاقة لا تنتمي إلى دنيا الفن بشيء، تشذّ حتى عن السّريالية في عالم من اللامعقول، يحجب دهشة النظرة الأولى..
ضربة واحدة، سريعة خاطفة، كانت كافية لتحلّق السّاعة نحو الجدار الصلب، فتسقط متفتّتة مبقورة البطن، بارزة الأمعاء، تلفظ بقايا العقارب المؤذية، ويتناهى إلى الأسماع أنين الجرس المزعج... وكان الصمت إعلاناً عن موت السّاعة المنبّهة، لتصبح من الآن فصاعداً جثّة هامدة لا حياة فيها..
هو تمرّد، ثورة، اعتراض، سمّه ما شئت.. هذه حياتي لي أنا وحدي.. متى شاركتني فيها السّاعة حتى تحدد لي خياراتي؟.. تتحكم بأنفاسي.. بأوقاتي.. لا أريد بعد اليوم وقتاً، أريد العيش خارج الوقت.. خارج الزمن..
أكره الساعات..
نعم، أكره كل أنواع الساعات الرخيصة منها والباهظة الثمن، لم أنسج معها في أيّ أيام حياتي علاقة تناغم وتفاهم، حتّى إنّي لم أحمل في معصمي ساعة إلا اضطراراً؛ بعد أن كبرت وشاب نصف شعري وباتت طبيعة عملي تلزمني بذلك.
منذ طفولتي والسّاعة تشكل هاجساً لي..
كانت توقظني من أحلامي الصغيرة وتقذفني في الشوارع الضيقة، نحو المدرسة، التي كانت عقارب ساعاتها تمضي مثل السلحفاة المسنّة... لم تكن السّاعة تتحرك بسهولة...
عندما كبرت اعتقدت أني تخلصت من هواجسي وجنوني، لكن ظلّت السّاعة ذلك الوحش الذي ينقضّ على كل شيء جميل أحبّه، وكلّ اللحظات الرائعة التي أعيشها، فيما كانت تسير ببطء فظيع في كل أمر أودّ أن أنتهي منه بسرعة..
اليوم، فجأة، ودون سابق إنذار؛ أعلنت تمردي على كل العقارب، الصغيرة منها والكبيرة... لا أدري كيف جاءتني الجرأة.. لم أكن يوما بهذه الشجاعة.
سأحطّم كلّ ساعات المنزل.. لا، بل كل ساعات الدنيا، أريد أن أحيا هكذا من دون زمن، أنام عندما أريد، أصحو عندما أحب، أخرج إلى عملي وقتما أشاء، آكل وأشرب وأعيش بتلقائية بالغة..
بصراحة.. لقد أعلنت إفلاس الزمن...
أنا لا أريد الالتزام بحركات العقارب وسكناتها، كأنني رهينها...
أسير بين دقّاتها ورنّاتها...
أدور ـ مثلها ـ في حلقة فارغة...
أعيش بين أرقامها وعقاربها، كمن يحيا في جحر العقارب والأفاعي.. فهل يعقل أن أعيش بين العقارب؟ مستحيل ! هل أنا مجنون إلى هذا الحد؟
مجرد التفكير بالسّاعة ودقّاتها يولّد في سريرتي شيئاً من الرعب المجنّح. تكتكاتها ورنّاتها مثل قصف الصواريخ وأزيز المدافع..
حتى أجمل السّاعات تبدو لي دميمة قبيحة، لا أجد لها وصفا في الطبيعة...
هناك عداوة مزمنة بيني وبين الزمن، لم أتغلب يوما على هذه العقدة..
لكن هل سيسمحون لي بذلك؟
هل يقبل أحد بهذا التمرد؟ سأطرد من عملي دون شك... لن يلتزم أحد معي بموعد للقاء.. فأنا متمرد ضد الزمن..
وهل سيسكت عليّ الزمن؟
سيفضحني أمام المكان واللامكان.. سيقودني حتماً في طرقات لا زمن فيها.. ربما أعرى.. أجوع.. أتشرّد !
لا بأس.. سأواصل الاعتراض حتى يرضخ لي الزمن ويستسلم.. لن أتنازل عن آخر ثورة لي.. حتى هذه الأحلام لن يسمحوا لي بها؟!

******
فجأة...امتدت يد أمي بحنان.. أيقظتني من سبات عميق وأحلام فاتنة...
قالت بحب :
" هيا يا ولدي لقد طلع الفجر.. انهض للصّلاة قبل طلوع الشمس من مرقدها".
نهضت مسرعاً.. رمقت السّاعة التي لا تزال في مكانها مسنّدة ـ هناك ـ على طاولة جانبيّة، أسرعت إلى الوضوء وكتفي لا يزال يشعر بتربيت يد أمي.. الأجمل بكثير من رنين الساعة المنبهة.




المتسوّلة
د.طارق البكري


جلست على التراب في ظل حائط أمام مدخل المسجد، تستر وجهها بقطعة قماش باهتة متآكلة الأطراف، تضم إلى صدرها طفلة صغيرة شاحبة، بدا من عينيها أنها لم تنم ولم تأكل منذ أيام.
حضرت مبكرة.. فوقت الصلاة الجمعة لم يحن بعد.. هنالك أكثر من ساعتين.. ولولا بعض العابرين من آن إلى آخر لقفر الشارع إلا منهما.
البنت الصغيرة ملّت المكوث في حضن أمها... اللعب في باحة المسجد أمر مغر، قفزت تهرول، لم تمانع الأم، تركتها تلهو ببراءة حتى عثرت في أحد جوانب الباحة على نخلة دانية القطوف، حملت بعض ثمارها وركضت نحو أمها لتشاركها وجبتها الشهية..
نظرت الأم بإشفاق: "مسكينة أنت.. ما ذنبك لتتحملي معي الألم الفقر؟‍ لقد يتّمت باكراً جداً، حتى إنّك لم تعرفي معنى الأبوّة" ..
تذكرت كيف كانت تعيش عيشة رغيدة بصحبة زوجها.. لقد كانت سعيدة جداً قبل أن يأتي الأشرار ويطردونها من بيتها وأرضها.. حاول زوجها أن يمنعهم.. لم يكلّفهم إلاّ رصاصة واحدة.. سقط إثرها مضرجاً بالدماء ..
خرجت الأم هائمة على وجهها، تجرّ ابنتها جراً، وانقطع أي اتصال بينها وبين أخوتها، كانت متأكدة من موت أبيها وأمها على يد الأشرار هؤلاء... حملها باص صغير... نقلها وابنتها إلى أرض بعيدة.. كرهت نفسها.. كرهت الناس والحياة، تمنت لو ظلّت هناك جثة هامدة إلى جانب تربة زوجها، لأنّ ذلك أفضل مما هي فيه ألف مرة.
بالأمس كانت تعيش ملكة في مملكتها واليوم تمد يدها إلى الناس.. يا سبحان الله كيف انقلب بها الحال؟ هجرت أملاكها ووجدت نفسها في مكان بعيد داخل مزرعة.. لم تكن تقوى على السير... حملها رجل.. ادخلها بيته، وبعد أن استعادت وعيها حاول نهش لحمها المشوي تحت الشمس بلا رأفة ولا رحمة.. ضربته بخشبة امتدت إليها يدها الواهنة.. ضربته في عينه فانقلب على ظهره من الألم، حملت ابنتها وفرت بمصيبتها؛ لقد كان جار أسرتها...
جف حليبها ولم تيأس.. بحثت في القمامة عن بقايا الطعام.. أصبح وجهها كومة عظام يحمل عينين ناتئتين بعدما كانت تتدفق بالحياة..
اقترب موعد الصلاة ولم يأت أحد بعد.. عزت نفسها بثمار النخلة.. اقتربت من باب المسجد فشاهدت ورقة معلقة في ركن جانب المسجد: "مغلق للترميم"، ضحكت كما لو لم تضحك من قبل.. "حتى المسجد أغلق لما جئت إليه؟".. قامت تسير ببطء شديد.. مرّت سيّارة مسرعة.. خافت الطفلة من صوتها المرعب.. أوقف السائق سيارته فأحدثت الإطارات زعيقاً متواصلاً فوق الأسفلت.. تلفت هنا وهناك ثم عاد بهدوء وقال: "إلى أين يا حلوة ؟"
رمقته الأم بأسى وبصقت في وجهه ثم مضت في طريقها..
أغضبت الأم الشاب... عاد وتلفت هنا وهناك وعندما تأكّد أن المكان خالٍ تماماً انقض بسيارته على المرأة المسكينة وطفلتها البريئة وتركهما فوق الرصيف يودعان الحياة.















المــرأة الغامضة
د.طــارق البكري


من يستطيع فهم تلك المرأة الغريبة...؟؟
جاءت من مكان لا نعرفه...!
سكنت حارتنا الشعبيّة، اشترت أقدم بيت فيها..!
أصلحت البيت.. جدّدته.. حافظت على شكله القديم، أصبح تحفةّ رائعةّ...
سيّارتها الحديثة جداً، تلمع تحت الشمس، ولا تتناسق أبداً مع أزقة حارة ضيقة ممراتها، متّسخة ساحاتها، مختنقة بالباعة الجوالين وبسطات الخضار والفاكهة والثياب المستعملة...
من يفهم المرأة؟
تنزل من سيارتها... تدفع كتلةً دهنيةً عظيمةً... تجعلها مثل بالون منتفخ..
يمسك السائق الباب ويفتحه أقصى ما يستطيع، السيّارة كبيرة واسعة؛ تنزلق المرأة منها برشاقة وخفّة تناقض ما تحمله من تضاريس تشعر أنّها قد تقع من جسمها.
تسير المرأة في محاذاة البيوت المتهالكة، تسير ولا تتلفت.
أهل الحارة ينتظرون يوميّاً هذا المشهد الذي يستغرق ثوانٍ معدودات ثم تختفي المرأة في بيتها القديم المتجدد..
لم يكن أحد يملك شجاعة كافيّة ليلقي التحية على المرأة، أو على الأقل ليسأل سائق السيارة عن السر الغامض...
أصبحت المرأة حديث الناس..
والناس في الحارات الشعبية يعرف بعضهم بعضاً..
يعيشون في بيوت كأنّها من زجاج.. لذا كانت المرأة لغزاً حقيقياً احتار به الجميع.
مواعيد دقيقة جداً مثل رنّات السّاعات السويسريّة الأصيلة، التي بات شباب الحارة يفتخرون باقتناء نسخ مقلّدة منها، يتباهون بحملها..
المرأة تأتي إلى البيت مرّة في الصباح وتخرج بعد ساعة، وأحياناً تأتي قبيل المغرب إلى أذان العشاء، وغالباً يوم الخميس تمكث طوال النهار..
احتار الناس...
لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها..
كانت تحضر خادمتها معها؛ تأتيان معا.. يبقى السائق قرب السيّارة منتظراً.. يمسح زجاجها وهيكلها.. يقرأ كتاباً..
تسير المرأة محاطة بعلامات الاستفهام، لا تحرك رأسها، لا تتكلم، تغيب بسرعة كأنّها هاربة من شيء...
نسج أهل الحي البُسطاء عن اللغز قصصاً شعبية...
العم أحمد صاحب جزارة اللحوم، أثرى رجل في الحارة، وأكثر أهلها حرصاً على اكتناه سرّ هذه المرأة.. زوجته ماتت قبل سنوات طويلة.. أولاده تزوّجوا وخرجوا من الحارة ؛ سكنوا العمائر الحديثة التي يقصدها المتعلمون خوفاً من انكشاف أنّهم من أبناء الحارات والأزقة والأبنية الشعبية...
العم أحمد فكّر بالمرأة عروساً له... ببساطة، بعد الستين:
"لا بأس، سنّها مناسب جدا،ً تبدو شابّة.. لكنّها بالتأكيد جاوزت الأربعين، أظنّها أرملة.. أكيد هي أرملة.." .
ترتدي دائما الثياب الداكنة، صحيح أنّها غنيّة وتبدو أيضاً متعلمة؛ لكن العم أحمد أهم رجال الحارة، كلمته كلمة.. الكل يحترمه ويهابه....
الحاج فكري، حلاَّل المشاكل، تصّور المرأة غارقة في بحر من الهموم.. إنها صيد لذيذ حبذا لو سقطت بين يديه ليكشف كلّ هذا الهم الذي يكسوها..
يريد فكري أن يزيل عن المرأة هذا الغمام، ويرى عينيها..
حاول مرة الاقتراب، منها نظر إليه السائق نظرة مرعبة.. تأمل عضلاته المفتولة.. قال في نفسه:
" الهروب ثلثاً المرجلة" .
نساء الحارة أصابتهن الغيرة من السيدة المجهولة بعضهنّ حاولنّ التلصلص عليها من النوافذ المطلة.. لكنهنّ فشلنّ؛ لم تكن نوافذ البيت تفتح على الإطلاق، الستائر السميكة لم تكن تتحرك...
حاول البعض إشاعة خبر:
"المرأة سيئة السلوك.. تأتي بغرض المتعة الحرام" .
لكنّها لم تتجاوز الأفواه؛ لم ير أحد رجلاً على الإطلاق يدخل البيت.. حتى السائق كان لا يدخل أبداً.. ينتظر في السيّارة مثل الحارس الأمين...
الشّباب تفتّحت أذهانهن على أحلام الزواج بسيدة قوية غنية، تلفّها الأسرار والألغاز.. الاسم لا يهم، النسب لا يهم، المهم أنّها تملك سيارةً فخمة وبيتاً رائعاً في حارتهم الشعبية الفقيرة.. سوف يصبح سعيد الحظ سيد الحارة بلا منازع...
شيوخ الحارة تأسفوا على ضياع شبابهم.. تحسّروا لأنهم لم يلتقوا سابقاً بهذه المرأة الغريبة الآتية من المجهول.. وراحوا يتمنونها لأولادهم ..
الصغار فرحوا بالسيارة الفارهة؛ ينتظرونها كل يوم.. يدورون حولها.. يركضون وراءها.. يغنون ويرقصون ويصفقون.. السيّارة بالنسبة لعم عيد يومي.. بل صارت كرنفالاً مجانياً يسرحون فيه ويمرحون...
الجميع بلا استثناء كان مشغولاً بالمرأة الغامضة..
المرأة وحدها لم تكن تفكر بأحد.. كان فكرها مشغولاً بشيء آخر..
ما تزال تذكر هذه الممرات والأزقة والبيوت المكدّسة فوق بعضها..
يوم كانت طفلة.. يوم طردها وأسرتها صاحب البيت لأنهم لا يملكون دريهمات قيمة إيجار غرفة رطبة في أسفل المنزل تحت الأرض، كانت تستخدم كمخزن للأشياء المهملة...
عادت المرأة لتتذكر ماضيها...
عادت غنيّة.. بل غنيّة جداً..
الناس لا يعرفونها، فكروا بكل شيء، إلا أن تكون ابنة الرجل الفقير الذي كان يسكن الغرفة الرطبة البعيدة عن الشمس والهواء قبل نحو ثلاثين عاماً...
لكنّها ما عادت لتسكن البيت.. بل لتسكن ماضيها الأليم..
لتدفن تشرّدها وأهلها سنوات فوق الأرصفة، دون أن يسأل عنها وعن أهلها أحد..
لا العم أحمد ولا الحاج فكري ولا حتى واحدة من نساء الحارة، أو شاب من شبابها أو شيوخها كما يسألون عنها اليوم لـ "سبب"....
كانت ابنة ذلك الفقير، ابنة رجل لا يملك شراء لحمة من جزارة العم أحمد، بل كان يبحث عنها في حاوية القمامة ..
ولا يملك ثمن خياطة ثوب عند الحاج مرعي.. ولا شراء فاكهة من بقالة الكرم..
لم تبدد المرأة الغامضة أحلام حارتها.. لم توقظها من نومها الطويل..
لم تشتري المنزل الكبير لتسكن فيه؛ بل كانت تأتي لتلقي بنفسها دقائق معددات في سريرها القديم.. في الغرفة الرطبة التي لا يصلها الهواء ولا الشمس..
ظل أهل الحارة يتكلمون ويتكلمون ويتكلمون .. وظلت المرأة دفينة أسرارها وغموضها .










حــاضر سيدي

د.طـارق البكري:




لم تظهر أي شكل من أشكال الاعتراض .. " حاضر سيدي" قالتها بصوت منكسر لا تملك حتى أن تـعبر في ملامح وجهها عن الرفض .. أبدت الإعجاب.. وافقت فورا على كل ما قاله .. في نفسها كل إمكانيات التمرد ..لكنها امرأة محطمة أو على الأكثر بقايا حطام ..
كانت أفكارها مجمدة ..أحاسيسها مكبله.. عيونها فاترة، تمشي كآلة تحركها أداة التحكم عن بعد .. " حاضر سيدي".. تكفيه هذه العبارة ، لا يريد منها أكثر، يثق بأنها ستنفذ أوامره بدقة تامة.. يعلم أنها تكرهه و تود لو تغرس أنيابها في لحمه تمزق جسده بأظافرها التي تبدو له كمخالب نمرة شرسة في قفص من حديد.
تعطيه ظهرها وتمشي .. يرن جرس الهاتف، يقطع عليه حبال الخوف ، هذا الرعب اليومي الذي يعيشه دون أن يجرؤ على إنهائه .. " أهلا ، كيف أحوالك يا زنبقتي " تجيب بدلال : " توقف عن هذا الكلام ، أنا استحي " .. " أنت تستحين ؟! ها ها ها " ، يضحك ضحكة مجلجلة ..
" هل أنا زنبقتك حقا؟؟" ..
" بل أجمل وأحلى وأغلى زنبقة " ..
"آه.. أتمنى لو أصدقك ".
ينتهي الحوار بموعد مسائي جميل ..
ينادي المرأة : " أريد فنجان قهوة بسرعة " .
" حاضر سيدي "
لا يقدر على منع نفسه من إهانتها، يعلم أنه مخطئ ، لكنه لا يستطيع التوقف عن تصرفاته الغريبة .. اعتاد على ذلك ، لو أراد الآن تغيير أسلوبه معها لعجز ، يظن أنها اعتادت هي أيضا ، ومع ذلك كلما رآها خاف من أنيابها وأظافرها .. يظن أنها ستقضي علــيه يوما ما دون سابق إنذار.. تضع حدا لفظاظته معها..
يرفع هاتفه النقال يطلب سبعة أرقام محفوظة في ذاكرة الهاتف :
" آلو روحي .."
" أين أنت ؟! ظننتك لن تتصل .. "
" اشتقت إليك "
" أتمنى لو أصدقك"
" هل أنت مشغولة اليوم "
" آه يا عفريت .. تتذكرني فقط عندما تريد .."
" لا وغلاك.. أنت دائما في القلب"
" اتمنى لو أصدقك "
" الساعة السابعة في الشقة البحرية ؟"
" اجعلها الخامسة لا أريد أن أتأخر"
" اتفقنا "
تدخل المرأة .. تحمل فنجان القهوة .. كانت تستمع إلى المخابرة قرب الباب ..
" كم هو وقح !! أكرهه .. أكرهه.."
يرمقها بعينيه .. تبدو عليها حالة الرهبة .. لكنه فظ وغليظ ..
من أن يأتي بكلامه المعسول الذي تسمعه على الهاتف...
حفظت كل كلماته المليئة بالكذب تعلم أن كل النساء اللاتي يكلمنه يعلمن أنه يكذب عليهن وأنه يدرك أنهن لا يسعين إلا لماله وهداياه ...
تود لو تقفز وتقبض على عنقه وتخنقه مرة واحدة .. مرات عديدة ، فكرت أن تفعل ، لكنها تخاف منه .. تخاف من عينيه .. تخاف من يديه القويتين ..
كان شعور الخوف متبادلا .. هو يأمرها وهي تقول جملة محددة :
"حاضر سيدي "
لم تجرؤ يوما على الرفض .
تتمنى لو تسحقه تدمره تمزق أمعاءه ..
يرن الهاتف في جيبه :
" من .. آه حبيبتي "
" لم تعرف صوتي .. يا محتال "
" لا .. لا، عرفتك منذ رن الهاتف " أ
" أنت كذاب خفيف الظل .. لم تتصل بي منذ فترة ؟ "
" مشغول جدا "
" كيف أحوالك ؟ لقد وعدتني بإسوارة ذهب ، ومنذ وعدك لي لم أرك ! " .
" إنها جاهزة .. سأتصل بك عندما افرغ من عملي "
" أنت كذاب كذاب ، لكنك كذاب لطيف ، على أي حال لا بأس لقد قضينا وقتا ممتعا وسأنتظرك حتى تمل من الأخريات "
" باي " .
سمعت الحوار من خلف الباب تعلم إنه لا يصدق مع واحدة منهن ..
هكذا حياته لن يتغير ..
فلماذا تظل على أمل يأمر فتستجيب لأمره دون أي كلام ..
فظ معها ، لكنها سعيدة وهو لا يستطيع التخلي عنها لسر لا يعرفه ..
نصحتها صديقتها أن تتجمل له أن توقعه في حبها ..
تقول :
" هذا الرجل ليس له قلب .. التجارة جعلته يتعامل مع الناس بالحساب .. حياته كلها بيع وشراء ونسوان .. "
ومع ذلك كان في قلبها شئ من أمل ..
توترت لم تستطع الصمود أكثر من ذلك ، قررت ترك العمل والبحث عن عمل جديد ... فجأة انقطعت ، ذهبت دون أن تخبره بأنها ذاهبة ..
شعر بفراغ كبير ..
انقطع عن كل اتصالاته .. اشترى خط هاتف جديد ..
منع سكرتيرته الجديدة من تحويل المخابرات النسائية إليه ..
ضاقت نفسه ، لم يصدق ما حدث له .. بحث عنها في كل مكان . لم تترك عنوانها ولا رقم هاتفها ..
أخيرا وجدها ..
كلف كثيرا من الناس البحث عنها..
وجدها في بيت فقير بعيد في أطراف ضاحية المدينة ..
قالت :
" ليس عندي ما تبحث عنه .. اذهب إلى هؤلاء اللاتي يتصلن بك " .
جثا أمامها .. اعتذر .. أظهر كل الخوف الذي كان يشعر به أبدى كل الرعب الذي يضمره ..
لم تصدقه..
أقسم أنه صادق ..
أخيرا أدرك سر المرأة التي كانت تستمع إليه وتقول : " حاضر سيدي " ..
الآن صار يقول لها:
" حاضر يا زوجتي الغالية " .


















حزمة المال
د.طارق البكري


"انتظر حتى يأتي دورك، لم يحن الأوان بعد، ألا يمكنك أن تتحلى بشيء من الصبر". منذ بضعة أشهر وهو يسمع هذه الكلمات في كل مرة يراجع فيها المشفى الحكومي، حتى ملّ التكرار ورتابة الانتظار...
جلس أكثر من ساعة في الزيّارة الأخيرة... رجلاه لم تعودا كما كانتا في الماضي، المرض نخر حتى عظامه.. قعد منتظراً قدوم الكاتب بعد أن قيل له إنه ذهب ليقضي حاجته، لكن يبدو أنّه ذهب إلى أبعد دورة مياه في المدينة..
"بالله عليك يا بنيّ ألم يحن دوري بعد؟ أنا تعبان تعبان"..
قالها بحسرة وكأنّه يعرف الجواب مسبقاً...
نظر الكاتب للرجل باستعلاء شديد: "إلا تفهم ألا تستوعب الكلام؟؟ أنت تحتاج إلى عمليّة جراحيّة كبيرة.. هناك عشرات مثلك ينتظرون"..
ثم اقترب منه هامساً في أُذنه: " كل شيء ممكن بثمن.. فانظر كم تساوي حياتك؟".
هم الرجل بضربه بقبضة يده الواهنة لكنه تراجع وقال:"كم أيها الحقير"..
"ادفع ما تظنه قيمة حياتك"... ثم مضى ودخل غرفته وأغلق الباب يبتسم ابتسامة عريضة.
خرج الرجل حيران أسفاً.. من أين يأتي بالمال؟ لقد حذّره الطبيب آخر مرة من خطورة حالته الصحيّة وأنّ دقّات قلبه ستتوقف عن النبض في أي لحظة إن لم تجر له عملية جراحية سريعة.. من أين يأتي بالمال ليرضي ذلك الكاتب الجشع؟؟
فكر قليلاً.. ليس لديه خيارات.. لا يملك سوى شقّة قديمة في حي فقير لا تساوي إلا قيمة تافهة من المال.. لكن ليس باليد حيلة، لم يعد هنالك مجال للتأجيل..
قادته قدماه بصعوبة إلى سمسار الحي ، وعده السمسار خيراً بعد أن شرح له ظروفه. وبعد أيام جاء المشتري وبيده كيس فيه حزمه رقيقه من المال فوقّع على بيع شقّته وحمل الكيس وتوجّه إلى المشفى:
"هذه المرة لن أعود خائباً.. سوف أحصل على موعد بأسرع وقت ممكن، سأدفع له المبلغ كاملاً ، المهم أن تجرى العملية" .
قطع الطريق من بيته المباع إلى المشفى بمدة قياسية.. فبعد أن كانت المسافة تستغرق نحو الساعة؛ وصل في أقل من نصف ساعة، أسرع إلى غرفة الكاتب ليرمي الكيس في وجهه وينتزع الموعد القريب... فجأه موظف آخر يجلس في مكانه.. إنه الموظف الجديد.. سأل عن الموظف القديم فقال له: "لقد فارق الحياة قبل أكثر من أسبوعين.. صدمته سيارة أمام مدخل المشفى وتوفي على الفور.. رحمة الله.. الآن قل لي ماذا تريد ؟"
"اسمي جمال السيد لي طلب قديم أنا....".
"مرحباً بك يا سيدي أين كنت؟؟ لم تترك عنوانك؟؟ إنّنا نبحث عنك منذ أسبوع، لقد عثرنا على أوراقك في أحد الأدراج، يبدو إنها كانت ضائعة، لقد قدمت إلى لجنة مختصة فوافقت على إجراء العملية.. وتم تحديد الموعد خلال الأسبوع المقبل يجب أن تدخل المشفى حالاً".
سقط الرجل أرضاً من هول المفاجأة... بعد أسبوعين من العملية غادر المشفى وعاد إلى مزاولة عمله.. استأجر منزلاً جديداً، وظلّ دائماً يترحم على الكاتب القديم.






ذاكرة الألم

د.طارق البكري


عاد من رحلته يائساً بائساً..
تخطّ قدماه في الأرض السهلة، تفوح منه رائحة عطر أنثوي يثير الغرائز.
ظنّ أنّه تحرر من قيود التاريخ وحواجز الزمن..
تناسى أنّه خليط من ماض وحاضر، نتاج هذا النسيج المركب، ابن هذا الزمان الذي يحاول الانفكاك منه ، وما استطاع إلى ذلك سبيلاً...
أصرّ بينه وبين نفسه على أنّه مغامر ماهر... أثبت أخيراً رجولته المنسية المسكونة بغلالات رقيقة من الألم والجوع والفقر، والمكوث طويلاً على أعتاب أصحاب الشأن وفي طوابير العاطلين الباحثين عن عمل...
نسيَ أنّ هنالك ملايين مثله...
طموحه الذي تكسّر على صخرة الواقع لم يجبر... بحث لنفسه عن مغامرة حقيقية مهما كلفه ذلك من عرق جبين.. المهم أنّه أثبت للعالم ولنفسه أنّه رجل قادر على كسر القيود.. يستطيع التغلب على ما يفرضه الناس عليه من حجر لأنه عاطل.. لكنّه لم يقصر بحثاً عن عمل شريف..
عمل حتى في تمديد المجاري الصحية، مع أنّه يملك شهادة عالية..
صديقته التي أحبها في الجامعة تخلّت عنه أمام أوّل طارق باب يملك شقّة وسيّارة وحساباً في البنك.. ما زال يتحسر على نفسه.. لم تستطع كل كميات الخمور الرديئة التي شربها لأول مرة أن تمحي ذاكرة الألم..
ظلّ يمشي لا يدري إلى أين ؟
يريد أن يرغم نفسه على الإيمان أنَّ المغامرة الأخيرة أشعرته بالبطولة.. بل إنَّه اليوم هو البطل الحقيقي، يضاهي أبطال السينما العالمية، وجهه الشاحب الذي لوحته الشمس بنارها كان يلمح إلى عكس ما يريد ..
"ما أحلاها من ليلة..".
عاد يهذي.. الخمر خرَّبت رأسه لكنها لم تمح ذاكرة الألم..
أخيراً وصل..
فتح نافذته المطلة على الشارع المظلم..
الشارع أشدّ سواداً من غابة في.. غابة ليس فيها قمر..
النَّاس في حارته ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة. عملهم يبدأ مع أذان الفجر.. يخرجون رجالاً نساءً وأطفالاً يبحثون عن أرزاقهم في كل مكان ولا يبقى في الحارة أحد.. قد يظنّها العابرون مليئةً بالأشباح ليلاً و نهاراً.. الحركة فيها تقتصر على وقتين لا ثالث لهما: بعد أذان الفجر وعند عودة الناس منهوكين متعبين حتى الثمالة قبيل مغرب الشمس...
يتسللون إلى غرفهم الرطبة وفرشهم العفنة... يفعلون الشيء الوحيد الذي يحبونه.. يلقون على رؤوسهم بطانيات بالية... يغرقون في نوم عميق مثل آلات علاها الصدأ...
هو وحده تمرّد... اكتشف نفسه في تلك الليلة..
مزّق شهادة الجامعة... شعر أنّ وجوده لا فائدة منه.. اكتشف فجأة أنه شيء ما لا يمت إلى ماضٍ أو حاضر.. تجسد الواقع الذي لا يجسّد واقعه... فكّر؛ ربما لأول مرّة في سنيّ عمره الذي تجاوز الأربعين... قرر التمرد مع سبق الإصرار والترصد..
مساكين أهل هذا الحي الفقير..
فقير؟؟؟
بل معدم، لا تغريهم الحياة..
لا يهمهم إلا الكدح. من الفجر حتى غروب الشمس، وبين المغرب والعشاء يمارسون الغريزة إذا استطاعوا..
لينسوا، للحظات قليلة فقط، تعب النهار وشقاوة الحياة..
وغالبا ما يعجزون..
وحده قرر اختراق حدود العقل وذاكرة الألم...
رسم في رأسه أفكار الموت البطيء، الموت لا يمكن... إنَّها حياة حينما يعز الموت..
غسل يده بصابونة قديمة حركها بصعوبة تحت ماء بارد، مثل الثلج، يابسة، مثل الصخر، من ندرة الاستعمال..
"لا أقبل أن أكون ذلك الإنسان اللاشيء."
اللاشيء حقيقة الفراغ..
يدمِّر التفاصيل الصغيرة حتى الإنسان نفسه.
مغامرة حقيقية خاضها... لم يكن يملك إلا تلك الدراهم البسيطة..
أضاعها كلها على ليلة حمراء، كان يعلم أنّ تلك الغانية تضحك عليه، توهمه أنه بطل... أنه رجل، مع أنّه في الحقيقة لا يدرك معنى الرجولة..
لم يترك فرصة لنفسه.
شرب حتى الثّمالة من أردأ أنواع الشراب, لم يستطع تغييب ذاكرة الألم.. استجمع كل قواه المتبقِّية..
غسل رأسه في طست نحاسي ورثه عن أجداده..
نقع رأسه في الطست، الماء بارد بارد..
أيقن أن لا فائدة من كل ذلك.
النّور بدأ يتسلل برفق، ذاكرة الألم على حالها.. الحارة تغرق في ضوء جديد، وجه الغانية الساخر وهي تطرده بعد أن أخرج من جيبه آخر الدراهم لا يستطيع نسيانه..
"لا بأس... المهم أنني تأكدت من رجولتي، أو على الأقل هذا ما بدا لي".
يتمتم أمام المرآة المتكسِّرة المجروحة من كل جانب... الموروثة هي أيضاً عن أجداده..
"لماذا تعلمت؟؟ ألم يكن الأجدر بي أن أكون فرَّانا أو بنَّاءً؟؟".
عاد إلى صمته.. ارتدى ثوبه الوحيد مرةً ثانية... لم يغسل فمه...
بقايا الخمر الرديء ما زالت تفوح من فمه.
ذهب إلى محطة القطار القريبة، اندس داخل الدرجة الأخيرة .. تلك الدرجة التي يبقى فيها الناس وقوفاً فترةً طويلةً طويلةً..
ترك القطار يسير به حيثما شاء.. يتخفّى من قاطع التذاكر... يبحثُ عن تذكرة واقعة على أرض القطار... يبحث عن محطة جديدة تبعده عن حارته؛ عن ذاكرة الألم، عن تلك الغانية الحمقاء التي ضحكت عليه ونزعت جيوبه من قروشه البسيطة، ثم رمته كقشرة موز تدوسها الأقدام، لا قيمة لها..








شجرة التفاح
د.طارق البكري


في بيتنا القديم حديقة واسعة واسعة ، في وسطها شجرة كبيرة، عتيقة عتيقة، شاخت مع مضي السنين .. أحبـبتها منذ الصغر، كان لي معها قصص وحكايا على مدى الفصول ومراحل الطفولة والشباب ..
كان أبي يقول إنّ أمّه ، رحمها الله ، غرستها شتلة صغيرة منذ زمن بـعيد، لا يدري متى بالتحديد فقد كان طفلاً، وهي تحمل في قلبه ذكريات غالية عزيزة .
لذا ظلّ يرعاها ويهتم بها كأنّها فرد من أسرتنا ، يقوم بتنظيف الأرض من الأوراق الساقطة منها ، بالرغم من وجود جنايني مهمته رعاية زهور وأشجار الحديقة الكبيرة.. يعتبر أوراقها الساقطة شيئاً غالياً .
في موسم التفاح كنا نفرح كثيراً عندما يقوم أبي بنفسه بقطف ثمارها ويقدّمها لنا ، باعتبارها أحلى وأغلى هديّة سنويّة مستمرّة من أمّه، يرحمها الله .
كنّا نشعر وكأنّ هناك عيداً اسمه: "عيد التفاح" ..
كنا نترقب الموعد يوماً بعد يوم لنرى تلك الفرحة الغامرة التي يعيشها أبي وهو يراقب الشجرة تزهر وتثمر .. وتخرج خيراتها ، "هدية الأم" ، جدتنا الغالية ..
كان أبي يمنعنا من الاقتراب منها ، حتى بعد أن ينتهيَ الموسم ، ولم يكن يسمح لنا باللعب في ظل الشجرة كيلا نتسلقها ونكسر أغصانها ..
لقد كان يحمل لها في قلبه حباً وفياً ، أصدق من روايات الوفاء والحب التي نسمع عنها الكثير الكثير .. من شدّة حرصه على الشجرة؛ بنى حولها سوراً خشبياً مرتفعاً فلا يمكن الوصول إليها إلا عبر بوابة صغيرة، ولها قفل ومفتاح واحد، مكانه الدائم في خزانة أبي ...
مع الأيام كبرنا وكبر أبي وشاخت الشجرة..
أصبح منظرها لا يتوافق مع مشهد الحديقة العام...
موقعها يتنافر مع موقع الأشجار الأخرى التي تحيط بالحديقة ، وتشكل سوراً طبيعيا.ً كنت أعرف أنّ إعدام الشجرة كان مستحيلاً؛ اخترت أهون الحلول، عرضت على أبي أن ننقلها بعناية إلى مكان مناسب في أحد الأركان، وبذلك تبقى في الحديقة، ولا تسبب تشويهاً للمنظر ..
احمرّ وجه أبي غيظاً ... انتفض في مجلسه غاضباً .. قال كلمة الفصل :
" لن تنتقل الشجرة من مكانها ما دمت حياً " .
احترمنا إرادة أبي ... لم يجرؤ أحد من إخوتي على اجتثاثها رغم ما تسببه لنا من إزعاج .
عند وفاة أبي لم يوص أحداً بالشجرة التي أحب وأخلص لها طوال عمره، لقد كان بإمكانه أن يوصيَ بها لكنّه عرف مقدار المعاناة التي تحمّلها من أجلها ، لتبقى ذكرى جميلة من أمّه ... فإن كانت ملزمة في حق نفسه ؛ فإنها ليست بالضرورة ملزمة في حق أولاده ..
أغلق عينيه بصمت ... لم يطلب من أحد منا المحافظة على الشجرة في مكانها..
والآن ، وبعد سنوات طويلة ، لا تزال الشجرة في مكانها، جفّت عروقها وأغصانها... لا تثمر .. لا ورق فيها إلا ما ندر .. لولا اخضرار بسيط فيها لأعلنّا موتها منذ زمن بعيد ...
وفي يوم ، اجتمعت زوجتي وأولادي ... ثم خرجوا ليعلنوا قراراً بالإجماع: "لا للشجرة لا نريدها لقد أصبح شكلها مخيفاً ومزعجاً " .
صاحوا جميعاً :
"إنّها عجوز لا فائدة منها " .
لم أغضب .. لم أرفع صوتي .. بل تمتمت بهدوء، مكرراً ما قاله أبي قبل سنين طويلة :
" لن تنزع هذه الشجرة من مكانها ما دمت حياً " .
اللهم ارحم أبي وجدتي.





صديقي
د.طارق البكري

كنت أبلع ريقي حال مخاطبتي إياه، متلمساً أطراف أناملي، مراقباً كلماته المرسلة بتأدب شديد واختيار حريص، خلاف غيره من الأصدقاء، وأظل مبتسماً مهما تداعت الخطوب، خشية استفزازه وانتشاله من لحظات الهدوء النادرة التي كنت أعشقها وأعرفها كخبير محنّك يميّز بين الماس الحقيقي والمزيف...
عرفته منذ زمن بعيد.. لا أدري متى تحديداً.. ربما من ثلاثين سنة، ربما أكثر، حتى إنّي نسيت كيف التقينا وفي أي مناسبة، ولماذا أغرقت في ودّ هذا المصقول بالتّجارب الزاخر بالخفايا؟...
كان صديقي القريب وكنت صديقه الوحيد...
بقيت صامداً رغم انفضاض الكلّ عنّه وتأرجحه في دوامه من الحدّة تفشّت في نفسه، بوضوح، طبع أصيل لا ينفك عنه في أفضل الظروف والمواقع...
عصبيته الزائدة فتّاكة نسفت كل الأشياء الجميلة التي يخفيها تحت كومة من الأشواك المسنّنة الحادة...
عاش حياته متناقضاً، لا يمكن أن تفهم ما يريد... ساعةً تراه محباً طيباً ليناً، مستعداً للتنازل عن كل ما يملك لقاء ابتسامة يتلقاها رضيّة من محتاج...
فجأة، دون إنذار أو سبب مفهوم، ينقلب قاطعاً خيوط التّماس، وغالباً ما قذف بعضاً ممن يكون حولـه بكأس ماء أو ملعقة أو بجهاز هاتفه النقال، لسبب أو لغير سبب....
ورغم هذا أحببته بصدق... ربما أكثر من زوجته وأولاده الذين فروا يائسين خائفين، عيل صبرهم فتركوه يمارس هواية القسوة، وكأنّه يتلذّذ عندما يمعن حتى الإضرار..
نعم أحببته... لامني الناس على محبتي؛ حتى زوجتي.. فالأمر لم يكن بيدي، كنت أتنازل عن رأيي الذي أعتبره صائباً وأتخلّى عن كبريائي واعتزازي بنفسي أمامه، لأني أحببته بصدق وآمنت بطيب معدنه، ولو بدا للناس غير ذلك....
في البداية حاولت جاهداً ثنيه عن عصبيته الفريدة من نوعها، ثم تراجعت..
مرّة قلت له مستغلاً لحظة صفائه عارض:
"الغضب مطية الضعفاء"...
انقض عليّ.. كاد يهشم رأسي لولا فراري من أمامه فرار "الشجعان"....
وما زلت أذكر ذلك النادل المسكين الذي كسر عظم يده لأنه أوقع على ثوبه الجديد القليل من الحساء الساخن، فقعد في جبيرته لأيّام، فيما حلّ صديقي ضيفاً على السجن، إلى أن رفق به النادل وتنازل عن حقّه بعد إلحاح ورجاء وتعويض مجزّ منيّ...
كان سراً. لا لشيء إلا مخافة أن يصيبني ما أصاب النادل المسكين..
لم أفهمه يوماً، ربما لقصور في نفسي! وربما لعجز!
لكن هل كل الذين كانوا يحيطون به عاجزون مثلي؟ لست أدري!
كان يفعل المستحيل من أجل إنفاذ حاجة لإنسان وإن كان لا يعرفه، فقد كان خدوماً إلى أبعد الحدود، كنت معجباً كثيراً بإصراره الفريد على فعل المستحيل....
لا يتردد في الدخول إلى مكتب مسؤول كبير وحتى وزير من أجل حل مشكلة إنسان تعرف إليه قبل لحظات.. وربما على باب المسؤول نفسه..
نعم أحببته، رغم كل عصبيته، لأنّه كان صادقاً في كل شيء؛ حتى في غضبه وعنفوانه وثورته.. اليوم صباحاً ودعته للمرة الأخيرة، غادرني رغم أني كنت لصيقاً به على عكس إرادته...
ودّعته من نافذة ترابية أغلقت عليه بهدوء دون أن يعترض كعادته..
رافقته وحدي وبعض البسطاء الذين لا يعرفونه.. حتى أقاربه لم يأت منهم أحد..
تركته هناك تحت الرمال الرطبة...
فوقه شاهد صغير، أكدت له أنني سأزوره من وقت لآخر، متفقّداً ومستذكراً أيّامه التي لا تنسى.. موصياً بمكان يكون لي قريباً منه..
واليوم.. ورثت عنه العصبيّة...
أصبحت وحيداً رغم كثرة الذين هم حولي...
والآن فقط، بعدما لملم أوراقه وتركني في وحدتي فهمته....
نعم.... فهمته، ربما أبلغ مما أفهم نفسي....
من سجن الحياة إلى سجن النساء
د.طارق البكري

"سيدي القاضي …أنا امرأة مسكينة، ما عرفت يوماً معنى الحرام، ولا اقترفت يداي جرماًً استحق معه كل هذا العذاب..
كلُّ الأدلّة التي جاءوا بها كذب وافتراء، ليست حقيقية، لا شك أنّهم يتحدثون عن امرأة أخرى، لست أنا هي بالتأكيد...
لا أعرف الأحداث التي يذكرونها، أنا لا أطلب منكم الرحمة، ولا استجدي منكم العطف والرأفة... فأنا بريئة رغم كل ما قيل عني...
لا أريد الرحمة.. لا أريد البراءة، أريد حقي في الحرية...
ابحثوا عن المرأة التي يتحدثون عنها فأنا لست هي بالتأكيد، كفى كفى"..
كانت تتحدث بقوة..
لم تثنِ كل الأحداث المرعبة من عزيمتها، بل زادتها قوة وعنفواناً وتصميماً.
القاضي رفع الجلسة للمداولة...
"محكمة".
"حكمت المحكمة حضوريّاً على المتهمة حوريّة صبري بالسجن عشر سنوات.. رفعت الجلسة".
لم تسقط من عينيها دمعة واحدة... قويّة صلبة.. نكبات الدهر علمتها الصبر.
الحضور كان سعيداً بقرار المحكمة.. كلماتها.. نظراتها.. ثقتها الزائدة بنفسها... رفضها استدرار عطف الحاضرين...
لم يترك كل ذلك مجالاً لشعور حتى بالشفقة نحوها...
حياتها الطويلة وهي تبدأ أولى خطواتها داخل السجن عادت إليها بكل ذكرياتها الحلوة والمرة: " خمسون سنة كاملة مضت.. خمسون سنة في سجن الحياة الواسع فما هي السنون العشر داخل القضبان؟؟".
لم تكن مبالية لم تطلب استئناف الحكم... السجن بالنسبة لها محطة استراحة ؛ بعد رحلة طويلة من العذاب.. ليس الآن فقط بل منذ الولادة. أمها المسكينة حملتها بعد وفاة زوجها رضيعاً، وانتقلت بها إلى المدينة.. لم يقبل أحد أن تعمل عنده برفقة طفلتها.. ظنوا أنّها هاربة.. أنّها حملت سفاحاً... عرض عليها رجال كثيرون "شهامتهم" التي كانت تخفي طمعاً بلحم هذه المرأة الضعيفة..
لم تجد مكاناً تأوي إليه... دافعت عن شرفها بشدّة، الوحوش لم ترحم توسلاتها، لم ترحم بكاء طفلتها الرضيع، لم تستطع احتمال كل القهر الذي أصابها لم تقوَ على اغتصاب كرامتها...
في اليوم الثاني اكتشف المارة طفلةً ملفوفةً بعباءة الأم السوداء، وعلى العباءة آثار دماء، والطفلة تكاد تتجمد من البرد، أمّا الأم فوجدوها بعد أيّام طافيةً قرب شاطئ النهر الذي يخترق المدينة..
نشأت الطّفلة في يتم... لا أب ولا أم.
كانت تراقب الأطفال الذين يسيرون في الشوارع، يمسكون أيدي أمهاتهم وآبائهم.. كبرت، وكبرت معها آلامها.. تكررت مأساة الأم : " شهامة الرجال" تزداد عند امرأة وحيدة.. الكلّ يقدّم خدماته، الكلّ يريد قيمة واحدة للخدمة...
ورثت عن أمها شيئاً خاصاً.. لم تستسلم لكل المغريات جابهت حتى الموت.. تعلمت.. كانت تريد إكمال دراستها لكن.. من يعلّمها ؟
وقفت عند المرحلة المتوسطة، بدأت تعمل شغّالة في البيوت.. الميتم لا يتّسع إلا لعدد محدود من الأيتام.. عندما يكبر الصغار قليلاً يبحثون لهم عن عمل ومكان يقيمون فيه...
زوج السيّدة التي تعمل عندها لم يرحم طفولتها...
مسنّ كريه، رائحة العفن تفوح من فكيه...
اغتصب براءتها.. لم تستوعب ما يحدث لكنها رفضت...
غريزتها أبت ذلك.. أغراها بالمال.. بالعطف..
أظهر لها ابتسامة تخفي مكراً عظيماّ، لكنها لم تستسلم..
عضته في يده... كادت تنهش لحمه، ذاقت طعم الدم لأول مرة، لم تسمح له أن يسقط نقطة دم من شرفها...
هامت في الشوارع بائسة... خرجت في ثياب بسيطة، لا مال لا طعام لا مأوى.. ادعى أنها كانت تسرق... حاول القبض عليها، لكنّه كبير بالسن، كانت أقوى منه، سرقت ماله وهربت...
أخفى الحقيقة... ماذا يمكن أن يقول لزوجته لأبنائه...
صدقته الشرطة...
صدقه القاضي... صدقته زوجته رغم أنّها لم تصدقه.. رجل محترم من أسرة محترمة، موظف كبير، لماذا يكذب؟ هي متشردة لا أب ولا أم.
هي السّارقة ولا فائدة من الكلام الذي تقوله..
مكثت في سجن الأحداث سنوات..
تعرفت على كل صنوف الانحراف.. صمدت.. لم تتأثر.
ورثت عن أمّها نزعة الخير، حاولت الفتيات هناك أن يفسدنها..
كان يسيء أكثرهن هذه المسكينة وإصرارها على التمسك بالشرف... هن يميزن أكثر من الشرطة ومن القاضي؛ يعرفن من منهن الشّريفة العفيفة ومن هي المنحرفة.
صمدت... لم تتأثر.
خرجت ناضجة: جسمها استدار، أنوثتها اكتملت، نقمتها على الناس والمجتمع ازدادت.. لكن من يوظّف عنده مثل هذه الفتاة.. من يفكّر بالزواج من فتاة مثلها؟
فكّرت بالعودة إلى قريتها البعيدة التي لا تعرف غير اسمها: " دير الشمس".
لكن من يستقبلها هناك؟! لا عم ولا خال ولا أقارب... حتى لو وجدت أقارب لها؛ هل سيصدقها أحد ؟
لقد صدقتها بنات السجن لخبرتهن.. و لم يصدقها المحقّق...
القاضي حكم بشهادة الرجل المعتدي.. كانت تفكر: كيف استراح ضمير ذلك الرجل؟ كيف قام بذلك دون أن يرحم طفولتها وحياتها وحكم عليها بالموت؟
ومع ذلك لم تستسلم...
في كل مكان بحثت فيه عن عمل كانت تُسأل عن ماضيها وهي تقول الحقيقة... لا تحاول إخفاءها.. العروض انهالت عليها من أصحاب العمل و الموظفين الكبار.. لكن: "خارج إطار العمل".
ما يعجبهم فيها ؟
"هيكل عظمي وبقايا امرأة". لكن يبدو أنّ شهوة الرّجال لا تميّز
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جراح ساخنة:قصص قصيرة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  جراح تحت الشمس

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
د. طارق البكري :: القصص القصيرة جداً :: المنتدى الأول :: القصص القصيرة جداً-
انتقل الى: